اخبار

العناية الإلهية تنقذ 4 أسر من انهيار عقار الجمرك بالإسكندرية

في مشهدٍ درامي يجسد مزيجًا من الخوف والرحمة الإلهية، شهدت محافظة الإسكندرية فجر اليوم حادثًا مأساويًا كاد أن يتحول إلى كارثة كبرى، بعد انهيار عقار قديم في منطقة الجمرك التاريخية المطلة على البحر المتوسط، إلا أن العناية الإلهية حالت دون وقوع خسائر بشرية، حيث نُجيت أربع أسر بأعجوبة من تحت الأنقاض بعد دقائق من الانهيار.

الواقعة التي هزت أركان المدينة الساحلية الشهيرة لم تكن مجرد حدث عابر، بل جاءت لتسلط الضوء من جديد على أزمة المباني القديمة والآيلة للسقوط في الأحياء الشعبية بالإسكندرية، وعلى الجهود المتواصلة التي تبذلها الأجهزة التنفيذية في المحافظة لتأمين حياة المواطنين وسط الكثافة العمرانية الهائلة التي ورثتها المدينة عبر عقود.

بداية الحكاية: لحظات ما قبل الانهيار

في ساعةٍ متأخرة من الليل، وتحديدًا عند الثانية صباحًا، سمع سكان شارع “الترعة” بمنطقة الجمرك صوتَ تصدّعٍ مدوٍّ تلاه اهتزازٌ مفاجئ في المبنى رقم (27)، وهو عقار قديم مكوَّن من أربعة طوابق، تسكنه أربع أسر متواضعة الحال.
يقول أحد شهود العيان، وهو من الجيران القاطنين في العقار المقابل: “كنت أجلس أمام التلفاز، وفجأة سمعت صوتًا قويًا كالرعد، وعندما نظرت من الشرفة رأيت الغبار يملأ المكان والعقار ينهار خلال ثوانٍ معدودة، لم أصدق أن أحدًا قد يخرج حيًا من هناك”.

وبحسب تصريحات مسؤولي الحماية المدنية، فإن العقار كان مسكونًا بالكامل وقت الحادث، إلا أن “القدر” تدخّل بطريقة غير متوقعة؛ إذ كانت معظم الأسر قد غادرت شققها قبل دقائق قليلة بسبب انبعاث أصوات غريبة من جدران المنزل، ما جعلهم يخرجون بسرعة إلى الشارع لإنقاذ أنفسهم وأطفالهم.

إحدى السيدات الناجيات وتُدعى “أم خالد” روت القصة بصوتٍ متهدج: “كنت أحس أن البيت بيتنفس، الحيطان كانت بتطلع صوت، فخفت على ولادي وقلت ننزل ننام عند أختي اللي في أول الشارع، وبعد ما نزلنا بعشر دقايق بس العقار وقع، حسّيت إن ربنا نجانا بمعجزة”.

جهود الإنقاذ.. معركة مع الوقت

بمجرد الإبلاغ عن الحادث، تحركت قوات الحماية المدنية والإسعاف ووحدات الإنقاذ السريع في وقتٍ قياسي إلى موقع الانهيار.
وخلال دقائق، تحولت منطقة الجمرك إلى خلية عمل مكتملة، إذ شاركت أكثر من 10 سيارات إسعاف و4 لوادر تابعة للأحياء، بالإضافة إلى فرق الدفاع المدني المدربة على التعامل مع حوادث الانهيار.

قال اللواء محمود عبدالعزيز، مدير إدارة الحماية المدنية بالإسكندرية، إن رجال الإنقاذ وصلوا إلى الموقع خلال أقل من 10 دقائق من تلقي البلاغ، وبدأوا فورًا في تمشيط الأنقاض للتأكد من خلو العقار من السكان.
وأكد أن التقارير الميدانية أثبتت أن جميع السكان خرجوا بالفعل قبل الانهيار بدقائق، مضيفًا: “ده لطف من ربنا، لأن لو كانوا اتأخروا خمس دقايق كان الوضع هيبقى مختلف تمامًا”.

وبعد ساعات من العمل المتواصل، تم تأمين محيط العقار بالكامل وإخلاء العقارات المجاورة تحسبًا لأي تصدعات ناتجة عن الانهيار.
كما تم نصب حواجز خرسانية لمنع مرور السيارات والمارة لحين الانتهاء من رفع الأنقاض بشكل كامل وإجراء الفحوص الفنية اللازمة.

خلفيات الحادث: عقار قديم ضمن قائمة الإنذارات

وفقًا للمعلومات الصادرة من حي الجمرك، فإن العقار المنهار كان صادرًا بحقه قرار ترميم منذ عام 2018، إلا أن الإجراءات لم تُنفذ بسبب خلافات بين الورثة على الملكية.
وقد دخل العقار ضمن قائمة المباني الآيلة للسقوط التي تتابعها لجنة المنشآت الخطرة بالمحافظة، لكنه ظل مأهولًا بالسكان نظرًا لعدم وجود بدائل سكنية متاحة للأسر في حينها.

مصدر مسؤول بالمحافظة أوضح أن عدد العقارات القديمة بالإسكندرية يتجاوز 17 ألف عقار، نصفها تقريبًا يحتاج إلى ترميم أو تدعيم عاجل.
وقال المصدر: “المشكلة مش في عدد العقارات بس، لكن في التعقيدات القانونية اللي بتمنع الإزالة الفورية، وده بيخلي بعض المباني تفضل واقفة على وشك الانهيار لسنين”.

وأضاف أن المحافظة تعمل حاليًا بالتعاون مع صندوق تطوير العشوائيات ووزارة الإسكان على وضع خطة لإعادة تأهيل تلك المباني تدريجيًا، مع توفير وحدات بديلة للأسر الأكثر تضررًا.

العناية الإلهية.. كلمة السر في الحادث

لم يكن إنقاذ الأسر الأربع مجرد صدفة، بل كان مشهدًا إنسانيًا تُجسد فيه رحمة الله بصورة ملموسة.
فبحسب روايات الجيران، فإن بعض السكان كانوا يتهيأون للنوم حينما شعروا بذبذبات في الأرض تشبه الزلازل الخفيفة، فدفعهم القلق إلى النزول سريعًا من العقار.
وبعد دقائق معدودة انهارت الجدران الأمامية بالكامل في مشهدٍ أثار الذعر في الشارع، لكن الجميع تنفس الصعداء حين تأكدوا أن السكان بخير.

أحد ضباط الإنقاذ قال: “لما وصلنا المكان، كنا متوقعين الأسوأ، لكن أول ما عرفنا إن مفيش إصابات ولا وفيات، كلنا قلنا بصوت واحد الحمد لله. ده لطف ربنا واضح”.

وقد تداول أهالي المنطقة مقاطع فيديو وصورًا للحظة الانهيار، حيث يظهر فيها العقار وهو يتهاوى بشكل عمودي دون أن يطال العقارات المجاورة، وهو ما وصفه كثيرون بأنه “رحمة من السماء”، لأن الانهيار لو مال جانبًا كان سيؤدي إلى كارثة أكبر تمتد لمنازل أخرى متلاصقة.

تأثر الأهالي ومعاناة ما بعد النجاة

رغم نجاتهم، فإن الأسر الأربع تواجه الآن صدمة نفسية ومادية كبيرة. فقد فقدوا كل ما يملكون من أثاث وأموال وأوراق رسمية، وباتوا يقيمون مؤقتًا في إحدى المدارس القريبة التي خصصتها المحافظة كمأوى إنساني لهم.
تقول السيدة “نجلاء.م”، وهي إحدى المتضررات: “أنا مش مصدقة إننا عايشين، بس مش عارفة أبدأ منين بعد اللي حصل، البيت راح وكل حاجة راحت، بس الحمد لله على السلامة”.

وأعلنت مديرية التضامن الاجتماعي بالإسكندرية صرف مساعدات عاجلة للأسر المتضررة بقيمة 20 ألف جنيه لكل أسرة، مع تقديم وجبات يومية ومستلزمات معيشية لحين تسكينهم في وحدات بديلة.
كما تم إرسال فريق دعم نفسي من الهلال الأحمر المصري لتقديم جلسات علاجية للأطفال والنساء الذين تعرضوا للصدمة.

رد فعل رسمي عاجل من المحافظة

من جانبه، وجّه اللواء محمد الشريف، محافظ الإسكندرية، بسرعة إزالة الأنقاض بالكامل خلال 48 ساعة، مع تشكيل لجنة هندسية عاجلة من كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية لفحص حالة العقارات المجاورة.
كما شدد على ضرورة مراجعة جميع قرارات الإزالة والترميم الصادرة سابقًا، والتأكد من تنفيذها فعليًا دون تأجيل، مؤكدًا أن حياة المواطنين “ليست مجالًا للتهاون أو الانتظار”.

وقال المحافظ في بيان رسمي: “ما حدث في الجمرك درس جديد يؤكد أن الإسكندرية بحاجة إلى سرعة تنفيذ قرارات الإزالة للعقارات الخطرة، ولن نسمح بترك أي مبنى مهدد بالسقوط طالما يمثل خطرًا على الأرواح”.

وأعلنت غرفة الطوارئ بالمحافظة أنها في حالة انعقاد دائم لمتابعة الموقف أولًا بأول، بالتنسيق مع الحماية المدنية ومديرية الأمن ووزارة التضامن.

تاريخ من الانهيارات في المدينة القديمة

تُعتبر الإسكندرية واحدة من أقدم المدن التي تعاني من أزمة المباني المتهالكة، خصوصًا في أحياء بحري والمنشية والجمرك.
فقد شهدت المحافظة خلال العقد الماضي أكثر من 300 حادث انهيار جزئي أو كلي، نتيجة تقادم عمر المباني وارتفاع نسبة الرطوبة وتأثر الأساسات بمياه البحر.

ويُرجع الخبراء السبب إلى البناء على الطراز الإيطالي القديم الذي كان يعتمد على الأخشاب والحديد المسلح الخفيف، وهو ما لم يعد صالحًا لتحمل الزمن والظروف المناخية الحالية.
كما أن التكدس السكاني الهائل في تلك المناطق يجعل من الصعب تنفيذ قرارات الإخلاء السريع دون توفير بدائل، ما يُطيل أمد الخطر.

ورغم هذه التحديات، نجحت الإسكندرية في السنوات الأخيرة في تنفيذ مشروعات كبرى لإزالة المناطق العشوائية الخطرة، مثل “مأوى الصيادين” و“النجيلة”، ونقل سكانها إلى مجمعات سكنية حديثة ضمن مبادرة “حياة كريمة”.

الجانب الإنساني: تضامن أهل الحي

في الوقت الذي انشغلت فيه قوات الإنقاذ بمهامها، كان مشهد التضامن الشعبي لافتًا للنظر.
فقد توافد عشرات الأهالي من الشوارع المجاورة للمساعدة في إخلاء المكان وإيواء الأسر الناجية، وفتح بعضهم منازلهم لاستضافة النساء والأطفال، في لفتة إنسانية تعكس أصالة الشعب السكندري المعروف بروحه التضامنية.

يقول الحاج “سعيد البحيري”، أحد كبار الحي: “إحنا كلنا هنا أهل، وقت الشدة بنقف جنب بعض، ومحدش بيستنى الحكومة، أول ما سمعنا صوت الانهيار كلنا جريْنا نشوف الناس بخير ولا لأ، وربنا سترها علينا كلنا”.

وتحوّل موقع الحادث بعد ساعات قليلة إلى مركز تبرعات شعبي، حيث قام شباب المنطقة بجمع بطاطين وملابس وأطعمة للأسر المتضررة، في مشهد يبعث الأمل رغم المأساة.

تحقيقات النيابة والإجراءات القانونية

فتحت النيابة العامة بالإسكندرية تحقيقًا موسعًا في الحادث للوقوف على ملابساته وتحديد المسؤولية، حيث انتقل فريق من النيابة إلى موقع العقار المنهار لمعاينة الأنقاض، وأمرت بندب لجنة هندسية لفحص العقار وتقديم تقرير عاجل.

كما قررت استدعاء مالك العقار وممثلي الحي لسماع أقوالهم بشأن تنفيذ قرارات الترميم السابقة، ومدى التزامهم بإجراءات السلامة.
ومن المتوقع أن تصدر النيابة بيانها خلال الأيام المقبلة متضمنًا نتائج التحقيق والتوصيات القانونية.

وأكد مصدر قضائي أن العقوبات قد تصل إلى الحبس والغرامة في حال ثبوت الإهمال أو التقاعس في تنفيذ قرارات الإزالة أو الترميم، وفقًا لقانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008.

رسالة من تحت الركام: الحياة أغلى من الجدران

وسط مشاعر الامتنان والدموع، عبّرت الأسر الناجية عن رسالة مؤثرة إلى كل من يعيش في عقار قديم مهدد بالسقوط، حيث قالت إحدى السيدات: “إحنا كنا بنقول مش هنسيب البيت مهما حصل، بس بعد اللي شفناه، بنقول للناس: سيبوا الجدران، الحياة أهم”.

كلمات بسيطة لكنها تختصر مأساة آلاف الأسر التي تعيش يوميًا تحت الخطر في العقارات القديمة بالإسكندرية وغيرها من المحافظات.
وتدعو الواقعة إلى ضرورة مراجعة شاملة لملف المباني القديمة وإعادة تقييم أولويات السلامة العامة، حتى لا تتكرر مثل هذه الحوادث.

خاتمة: دروس من رحم الكارثة

حادث انهيار عقار الجمرك لم يسفر عن ضحايا، لكنه ترك وراءه دروسًا غالية.
أولها أن العناية الإلهية وحدها ليست بديلًا عن المسؤولية البشرية، وأن الاستمرار في السكن داخل مبانٍ مهددة بالسقوط هو مجازفة بالحياة.
وثانيها أن تعاون المواطنين مع الجهات التنفيذية هو السبيل الحقيقي لإنقاذ الأرواح، فحين حذر السكان من أصوات الجدران، وأنصت الجيران، كُتبت لهم النجاة.

إن الإسكندرية، مدينة البحر والتاريخ، تستحق أن تعيش بلا خوف من الانهيارات، وأن تعود مبانيها العتيقة لتُروى قصصًا عن الجمال لا عن الألم.
ويبقى الحادث شاهدًا على أن الرحمة الإلهية قادرة على تحويل المأساة إلى نجاة، واليأس إلى أمل، حين تتضافر العزيمة الإنسانية مع العناية الربانية.



هل كان المحتوى مفيداً؟

نعم
لا
شكرا لك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى