الهند توقف بيع شراب الباراسيتامول للأطفال أقل من 4 سنوات دون روشتة

قرار صحي يثير الجدل ويحظى باهتمام عالمي
في خطوة وصفت بأنها “تاريخية وجريئة”، أعلنت وزارة الصحة الهندية عن وقف بيع شراب الباراسيتامول المخصص للأطفال دون سن الرابعة، إلا من خلال وصفة طبية معتمدة من طبيب مرخّص. وجاء القرار بعد تقارير متزايدة عن الاستخدام المفرط والخاطئ لهذا الدواء الشائع في معالجة الحمى وآلام الأطفال، مما تسبب في حالات تسمم دوائي وتدهور في وظائف الكبد لدى بعض الحالات.
الخطوة التي اتخذتها الهند تأتي ضمن إطار خطة وطنية تهدف إلى تنظيم سوق الأدوية وزيادة الوعي بالاستخدام الآمن للدواء، خاصة في الفئات العمرية الحساسة.
الباراسيتامول.. دواء شائع بسجل مزدوج
يُعد الباراسيتامول، أو كما يُعرف عالميًا باسم أسيتامينوفين، من أكثر الأدوية استخدامًا في العالم لتخفيف الألم وخفض الحمى. ويُباع في أشكال متعددة مثل الأقراص والشراب والحقن، ويُعتبر آمنًا نسبيًا إذا تم استخدامه بالجرعات الصحيحة.
لكن في المقابل، يشير خبراء الطب إلى أن الخطأ في الجرعة أو التكرار الزمني يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، لا سيما عند الأطفال، حيث تكون قدرة الكبد على استقلاب الدواء محدودة.
وقد أظهرت تقارير طبية أن أكثر من 35% من حالات التسمم الدوائي في الأطفال بالهند مرتبطة بالاستخدام العشوائي لأدوية الباراسيتامول، إما نتيجة إعطاء جرعات زائدة أو تكرار الجرعات خلال فترات قصيرة.
أسباب القرار الجديد
القرار لم يأتِ من فراغ، بل جاء بعد دراسة مطوّلة أجرتها وزارة الصحة بالتعاون مع هيئة مراقبة الأدوية الهندية.
وقد خلصت الدراسة إلى أن مئات الحالات التي تصل إلى المستشفيات سنويًا كانت تعاني من مضاعفات ناجمة عن تناول شراب الباراسيتامول دون إشراف طبي.
كما بيّنت الدراسة أن بعض الأسر تعتمد على هذا الدواء بشكل روتيني فور ظهور أي أعراض بسيطة على أطفالها، مثل ارتفاع طفيف في الحرارة، دون التحقق من السبب المرضي الحقيقي.
وأكدت الوزارة أن الهدف من القرار ليس حرمان الأسر من العلاج، بل ضمان الاستخدام الآمن والمسؤول للدواء، مشيرة إلى أن الأطباء فقط هم المؤهلون لتحديد ما إذا كان الطفل بحاجة فعلية إلى الباراسيتامول أو إلى دواء آخر.
وتم تعميم القرار على جميع الصيدليات في ولايات الهند، مع إلزامها بعدم صرف الدواء إلا بعد الاطلاع على وصفة معتمدة وتحفظها في السجلات الإلكترونية لمدة لا تقل عن عام.
ردود فعل الشارع الهندي
أثار القرار موجة واسعة من الجدل بين أولياء الأمور، خاصة في المدن الصغيرة والقرى التي يندر فيها الوصول إلى الأطباء بسهولة.
بعض الأهالي عبّروا عن قلقهم من أن يؤدي القرار إلى تأخير علاج الأطفال في الحالات الطارئة، بينما رحّب آخرون بالخطوة مؤكدين أن الاستخدام العشوائي للدواء كان يشكل خطرًا حقيقيًا على صحة الأطفال.
وقد نقلت وسائل الإعلام المحلية تصريحات لعدد من الأمهات اللواتي أشرن إلى أن “الدواء أصبح أشبه بمسكن دائم لكل مرض”، وأنهن كنّ يعتمدن عليه دون إدراك لمخاطره.
في المقابل، أطلق أطباء الأطفال حملة توعوية عبر وسائل الإعلام الهندية لشرح كيفية التعامل مع حالات الحمى البسيطة في المنزل دون اللجوء الفوري إلى الأدوية، مثل الاعتماد على الكمادات الباردة والإكثار من السوائل ومراقبة درجة الحرارة قبل أي تدخل دوائي.
رأي الخبراء والمختصين
رحب اتحاد أطباء الأطفال الهندي بالقرار، مؤكدًا أنه طال انتظاره. وقال الدكتور أرفيند باتيل، رئيس الجمعية، إن الباراسيتامول “دواء فعّال وآمن في يد الطبيب، لكنه قد يصبح خطرًا في يد العامة”.
وأضاف أن المشكلة الحقيقية تكمن في ثقافة “التطبيب الذاتي” المنتشرة في المجتمع، حيث يفضل الكثيرون شراء الدواء مباشرة من الصيدلية بدلاً من استشارة الطبيب.
وأشار إلى أن العديد من الحالات التي تم تسجيلها كانت لأطفال تناولوا جرعات مضاعفة نتيجة استخدام أكثر من نوع من الشراب يحتوي على نفس المادة الفعالة، ما أدى إلى تراكمها في الجسم وحدوث تلف في الكبد.
أما من الناحية الصيدلانية، فقد أوضحت هيئة الأدوية أن بعض الشركات كانت تسوّق أنواعًا متعددة من شراب الباراسيتامول بتركيزات مختلفة، دون تمييز واضح في العبوات، مما كان يسبب التباسًا لدى الأهل.
ومن الآن فصاعدًا، ستُلزم الشركات بوضع تحذيرات واضحة على العبوات، تتضمن عبارة: “يُصرف فقط بوصفة طبية – غير مناسب للأطفال دون 4 سنوات إلا تحت إشراف طبي”.
تأثير القرار على سوق الأدوية
تُعتبر الهند واحدة من أكبر منتجي الأدوية في العالم، حيث تُعرف بأنها “صيدلية العالم”، وتُصدر مئات الملايين من عبوات الدواء إلى مختلف الدول.
ولذلك، فإن أي قرار تنظيمي من هذا النوع له انعكاسات كبيرة على السوق المحلي والدولي.
فقد توقعت تقارير اقتصادية أن ينخفض الطلب المحلي على شراب الباراسيتامول بنسبة تتراوح بين 15 و20% خلال الأشهر الستة الأولى بعد القرار، بينما يتجه المصنعون إلى التركيز على الأشكال الدوائية الأخرى مثل الأقراص والمعلقات المخصصة للفئات الأكبر سنًا.
كما أبدت بعض الشركات قلقها من احتمال تراجع أرباحها، خاصة تلك التي تعتمد على شراب الأطفال كمنتج رئيسي.
لكن وزارة الصحة أكدت أن حماية صحة المواطنين تأتي قبل أي اعتبارات تجارية، وأنها مستعدة للتعاون مع القطاع الخاص في تطوير منتجات بديلة أكثر أمانًا للأطفال.
التأثير الإقليمي والدولي للقرار
لاقى القرار الهندي اهتمامًا عالميًا واسعًا، خاصة من منظمة الصحة العالمية (WHO) التي أشادت بالإجراء واعتبرته نموذجًا يمكن تطبيقه في دول أخرى تواجه نفس المشكلة.
وأكدت المنظمة في بيان رسمي أن “الاستخدام المفرط للأدوية التي تحتوي على الباراسيتامول لدى الأطفال يمثل خطرًا متزايدًا في عدة مناطق من العالم”، وأن تعزيز الرقابة الدوائية خطوة أساسية لحماية الأجيال الصغيرة.
كما بدأت بعض الدول المجاورة مثل بنجلاديش ونيبال وسريلانكا بدراسة اتخاذ إجراءات مماثلة، بينما أعلنت السلطات الصحية في الإمارات والسعودية أنها تتابع القرار عن كثب لتقييم إمكانية تبني سياسات مشابهة في المستقبل.
أبعاد صحية واجتماعية للقرار
تتجاوز أهمية القرار الجانب الدوائي إلى أبعاد صحية واجتماعية أوسع، إذ يُتوقع أن يُحدث تغييرًا في سلوك الأسر تجاه التعامل مع الأمراض البسيطة لدى الأطفال.
فالاعتماد الدائم على الأدوية كحل سريع قد خلق ما يسمى بـ “ثقافة الاعتماد الدوائي”، التي تقلل من اهتمام الأسر بالنمط الغذائي أو المناعي للطفل.
ويرى أطباء الصحة العامة أن القرار قد يكون نقطة تحول نحو زيادة الوعي الصحي في المجتمع الهندي، وتشجيع الأسر على العودة إلى استشارة الأطباء بدلاً من الاعتماد على نصائح غير متخصصة.
الأطباء يحذرون من البدائل غير الآمنة
في ظل القيود الجديدة، حذر الأطباء من لجوء بعض الأهالي إلى استخدام أدوية بديلة غير مصرح بها أو الاعتماد على وصفات شعبية غير علمية لعلاج الحمى.
وشددت وزارة الصحة على أن الرقابة ستشمل أيضًا مبيعات الأدوية عبر الإنترنت، حيث سيتم تفعيل نظام إلكتروني جديد لتتبع صرف الأدوية الممنوعة على الأطفال.
وسيتم تغريم أي صيدلية تخالف القرار، مع إمكانية سحب الترخيص في حال التكرار.
دور الإعلام والمجتمع المدني
أطلقت القنوات التلفزيونية الهندية حملات توعية بعنوان “دواء بحساب” لتثقيف المواطنين حول مخاطر الإفراط في استخدام الأدوية.
كما شاركت مؤسسات المجتمع المدني في توزيع كتيبات توضح الجرعات الآمنة للباراسيتامول وأعراض التسمم الدوائي المبكر مثل الغثيان والقيء والخمول الشديد.
وتم تدشين خط ساخن للتبليغ عن أي حالات تسمم أو مخالفات في بيع الأدوية للأطفال.
نظرة مستقبلية: نحو سياسة دوائية أكثر صرامة
تؤكد تصريحات وزارة الصحة أن القرار هو بداية لمجموعة من الإجراءات التنظيمية اللاحقة، تشمل مراجعة شاملة لجميع الأدوية التي تُصرف دون وصفة طبية للأطفال.
وقد تم تشكيل لجنة علمية تضم أطباء أطفال، وصيادلة، وخبراء في علم السموم لتحديث بروتوكولات العلاج المنزلي وتقديم توصيات بشأن الجرعات الآمنة.
الهدف النهائي، وفقًا للوزارة، هو الوصول إلى منظومة دوائية آمنة ومتوازنة، تضع مصلحة الطفل فوق أي اعتبار آخر.
الخاتمة: خطوة نحو مستقبل أكثر وعيًا
من الواضح أن قرار الهند بوقف بيع شراب الباراسيتامول للأطفال دون الرابعة دون وصفة طبية لا يهدف إلى التضييق على الأهالي، بل إلى حماية حياة الملايين من الأطفال الذين قد يتعرضون لمضاعفات قاتلة بسبب الاستعمال الخاطئ.
وإذا ما نجحت التجربة الهندية، فقد تصبح نموذجًا عالميًا يُحتذى به في تنظيم صرف الأدوية وتوعية المجتمعات حول مخاطر الاستخدام غير المسؤول للعقاقير.
إنها رسالة قوية مفادها أن الصحة العامة لا تُقاس بسهولة الحصول على الدواء، بل بمدى وعي الناس بطريقة استخدامه.






