منوعات

ولادة مختلفة: حين جاء محمود سعيد إلى الدنيا برسالة فنية مضمرة

وُلد محمود سعيد في مدينة الإسكندرية عام 1897، في بيت يفيض بالثراء الثقافي والسياسي. لم يكن مولده حدثًا عابرًا في التاريخ العائلي، بل بدا وكأنه بشارة بقدوم عقلية استثنائية. والده محمد سعيد باشا، أحد أبرز رجال الدولة والقانون، مما وفّر للطفل جوًّا نخبويًا يمزج بين الثقافة والسياسة والفن.

في منزل سعيد باشا، حيث الكلمة لها وزن، واللوحة لها مكان، تربى محمود سعيد وسط توازن بين الجدية الفكرية والذائقة الجمالية. نشأته الأولى لم تكن منعزلة عن الصراعات الفكرية في مصر الملكية، بل كان منذ صغره يُصغي، ويتأمل، ويختزن.

لم يكن هناك شيء عادي في حياة هذا الطفل. في الوقت الذي انشغل فيه أقرانه باللهو، كان هو مشغولًا بتتبع حركة الضوء على جدران البيت، وبملامح الناس في الشوارع القديمة. بدأ يرسم قبل أن يتعلم كيف يُعرّف نفسه فنيًا، وكأن اللوحة كانت لغته الأم.

وقد لعبت والدته دورًا غير مباشر في تشجيع حبه للفن، من خلال اهتمامها بالأقمشة والألوان والزخارف المنزلية. فتلك اللمسات النسوية النابعة من بيئة أرستقراطية مصرية شكلت حساسيته تجاه التفاصيل الصغيرة، ما جعله لاحقًا فنان التفاصيل الصامتة.

ما كان يميّز هذا الميلاد هو الجمع العجيب بين العلم والفن، بين المحاماة واللوحة، بين الفكر والوجدان. وهذا الجمع لم يكن مجرد تعايش بل تصارع مستمر، ظهر جليًا في حياة الفنان عندما درس القانون كخيار عائلي، لكنه ظل يرسم وكأن اللوحة خلاصه الأبدي.

عاش في بداياته توترًا بين ما أراده المجتمع وما أراده هو. بين المحامي الذي يجب أن يُرضي الأسرة، والفنان الذي يريد أن يُرضي روحه. هذا التوتر، وإن بدا كصراع داخلي، إلا أنه كان البوابة الحقيقية لإبداعه المختلف.

ميلاد محمود سعيد لا يُمكن اختزاله في شهادة ميلاد عادية، بل هو لحظة بداية لرحلة تشكيل الهوية الثقافية المصرية الحديثة. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنه وُلد حالمًا، لكنه كان يعرف منذ البداية أن الحلم يحتاج إلى مقاومة الواقع.

الأحياء السكندرية القديمة، والبيوت الأرستقراطية، والشوارع المملوءة بالتناقضات، كل ذلك دخل في نسيج وجدانه، ليظهر لاحقًا في لوحات تنطق بالعروبة والطبقة والأنوثة والحزن والجمال، كما لو كانت حياته كلها تمهيدًا لهذه اللحظة الفنية.

كان مولده في مدينة الإسكندرية تحديدًا أمرًا بالغ الدلالة. فهذه المدينة التي تشبه قوسًا بين الشرق والغرب، بين البحر والتاريخ، شكّلت روحًا فنية هجينة، تمامًا مثل محمود سعيد، المصري النخبوي، والرسّام الإنساني.

وهكذا، لم يكن ميلاده مجرّد بداية زمنية، بل كان انطلاقة رمزية لفنان سيعيد تعريف ملامح الهوية التشكيلية المصرية الحديثة من الداخل، لا من الخارج، من الفرشاة لا من السلطة، ومن الحُلم لا من الأوامر.

دراسته للقانون: تقاطع المسارات بين الرسم والعدالة

التحق محمود سعيد بكلية الحقوق في القاهرة، وهو قرار لم يكن بالكامل من اختياره، بل استجابة لضغوط الأسرة والبيئة الاجتماعية. فأن تكون “ابن باشا” في ذلك الزمن يعني أن تسلك طريقًا مهنيًا مقبولًا ومُعترفًا به اجتماعيًا. لكن داخله، ظل الفنان يهمس.

لم تكن سنوات الدراسة القانونية سنوات ضياع بالنسبة له، بل كانت لحظة تماس بين المنطق والفن. فمن خلال دراسة القانون، تعلّم محمود سعيد مفاهيم كالعدالة، والإنصاف، والسلطة، وهي مفاهيم أثّرت لاحقًا في رؤيته الجمالية والاجتماعية.

أثناء دراسته، لم يتخلَ عن الرسم. بل ظل يحمل دفتره الصغير في جيبه، يرسم في الخفاء، وفي أوقات الانتظار، وفي فترات الصمت التي كانت تداهمه وهو يقرأ نصوص القوانين. كانت هذه اللوحات السرّية خلاصه من قسوة المسار الذي لم يختره.

في نهاية دراسته، حصل على شهادة القانون، وسافر إلى فرنسا لمواصلة التخصص، وهناك عاش مفارقة مزدوجة: من جهة هو ابن العائلة الراقية الذي يدرس القانون في أوروبا، ومن جهة أخرى هو الرسام الناشئ الذي يقف ساعات أمام اللوحات في اللوفر.

في باريس، بدأ يتعمّق في الرسم أكاديميًا، واطّلع على المدارس الغربية، خصوصًا الواقعية والانطباعية، وتعرف على تأثيرات الفن الإيطالي والفرنسي، لكنّه في الوقت نفسه بدأ يدرك أن له هوية بصرية لا تُشبه أحدًا.

أدى هذا الوعي المتزايد إلى أن يتحوّل الرسم من هواية إلى مشروع. أصبح محمود سعيد أكثر وعيًا بأنه لا يهرب إلى الفن، بل يعود إليه. لم يعد القانون خطًا رئيسيًا في حياته، بل ظل ثانويًا، بينما أصبحت اللوحة لغته الأولى.

عندما عاد إلى مصر، مارس المحاماة لفترة قصيرة، لكنها كانت بلا روح. أدرك أنه لا يستطيع الموازنة بين ما يُحب وما يُجبر عليه. فاختار الانحياز الكامل للرسم، في خطوة شجاعة أثارت الدهشة في مجتمعه، لكنها كانت حتمية لروحه.

هذا التقاطع بين القانون والفن أفرز وعيًا خاصًا في لوحات محمود سعيد. لم تكن لوحاته تجميلًا للواقع، بل تساؤلًا حوله، محاكمة جمالية للطبقات الاجتماعية، للمرأة، للذات. لقد رسم كما لو أنه يُرافع عن الإنسان.

ومن المفارقة أن أكثر لحظات حريته كانت تأتي من تمرّده على مهنة يُفترض بها أن تحمي الحرية. وبينما كان زملاؤه يُرافعون في المحاكم، كان هو يُرافع في اللوحة، بلغة أخرى، وأدوات أخرى، وبصرخة أكثر إنسانية.

هكذا تحوّل القانون إلى جسر، لا سجن. لا يمكن فهم محمود سعيد دون هذا المسار المزدوج، الذي جعله فنانًا واعيًا بمفاهيم السلطة والحق، وهو ما أضاف بُعدًا عميقًا لرؤيته التشكيلية، خاصة في تعامله مع المرأة والطبقة والتقاليد.

عزلته الاختيارية: حين اختار محمود سعيد أن يرسم بعيدًا عن الضوء

رغم أنه كان من نخبة المجتمع المصري، إلا أن محمود سعيد اختار أن يعيش حياته في عزلة فنية هادئة. لم يُعرف عنه الحضور المتكرر في المحافل الاجتماعية أو المناسبات الثقافية البارزة، بل كان يفضل العمل في صمت، وكأن الفن عنده فعلٌ فرديّ لا يحتاج جمهورًا مباشرًا.

هذه العزلة لم تكن انطواءً بقدر ما كانت اختيارًا فلسفيًا. لم يكن سهلًا أن يكون فنانًا في عصرٍ كانت فيه الأضواء تُغري، وكان الفن في كثير من الأحيان وسيلة للظهور، لا وسيلة للتعبير. لكنه كان يُدرك أن التفرغ للوحة هو جوهر الفن الحقيقي.

اختار محمود سعيد الإسكندرية كمقر دائم لإقامته، ورفض الحياة الصاخبة في القاهرة. كانت الإسكندرية بالنسبة له ملاذًا هادئًا للتأمل والعمل، مدينة البحر والنور، حيث تختلط الثقافات وتذوب الطبقات، تمامًا كما في لوحاته.

في عزلته تلك، بنى عالمًا بصريًا خاصًا. لم يتأثر كثيرًا بالمدارس الفنية الطاغية في زمنه، ولم يسعَ إلى مجاراة الموضات الفنية. بل حافظ على حسه الواقعي – الرومانسي، وخلق أسلوبًا بصريًا فريدًا يصعب تصنيفه ضمن أي مدرسة غربية تقليدية.

كانت لوحاته تُنتج من رحم التأمل، ومن انغماس داخلي طويل في الوجدان، لا من تفاعل سريع مع الأحداث. ولهذا السبب تبدو لوحاته دائمًا خالدة، لا ترتبط بزمن سياسي أو موجة عابرة، بل ترتبط بمشاعر إنسانية أعمق.

وقد منحه هذا الانعزال قدرة على الإنصات لصوته الداخلي دون تشويش. أصبح الفن بالنسبة له ليس أداة للتغيير الاجتماعي، بل وسيلة للتعبير العميق عن الوجود، عن الحزن، عن التأمل، عن الهوية، عن المرأة والذات والعلاقة مع الآخر.

كانت هذه العزلة بمثابة درع حامي لفنه. في الوقت الذي انجرف فيه آخرون نحو الفن المؤدلج أو التجاري، ظل محمود سعيد مخلصًا لهدوئه وتفرّده. هذا ما جعله لاحقًا أحد أكثر الفنانين تأثيرًا رغم ندرة ظهوره العلني.

الانعزال لم يمنعه من الإبداع، بل حرره منه. كل لوحة كان يرسمها بدقة النحات، وبشغف الصوفي، وبصبر الحكيم. ولذلك، حتى لو لم يرسم كثيرًا مقارنة بغيره، فإن كل عمل تركه خلفه يبدو وكأنه خلاصة روح.

لم يكن محتاجًا للتصفيق. لم يكن يسعى وراء الجوائز أو الألقاب. كان يرسم لأنه لا يعرف الحياة بدون الرسم. وكان يرى في العزلة طُهرًا يحميه من تحوّل الفن إلى مهنة أو وظيفة.

وهكذا، تحولت هذه العزلة من خيار شخصي إلى فلسفة كاملة في حياته. لم تكن انكفاءً، بل ارتقاءً. لم تكن انسحابًا، بل تمركزًا حول الذات كمنبع للإبداع الحقيقي.

المرأة في لوحاته: موضوع لا ينتهي

لا يمكن الحديث عن محمود سعيد دون الحديث عن المرأة في فنه. كانت الأنثى محوره البصري والأخلاقي، ومصدر إلهامه، وأحيانًا مرآته الخاصة. لقد رسمها ككائن كامل، معقّد، مزيج من الحضور الطاغي والهشاشة المبطّنة.

المرأة عند محمود سعيد لم تكن مجرد موضوع جمالي، بل كانت كيانًا مستقلًا، له هيبة وروح وسرد. سواء كانت فلاحة، أو عذراء، أو امرأة من الطبقة البرجوازية، فقد كانت تحمل في ملامحها حكايات لا تُروى بالكلمات.

من خلال جسد المرأة، حاول أن يرسم تاريخًا، لا جسدًا فقط. أن يرصد العلاقة بين الجسد والمكان، بين البشرة والنور، بين الوضعية والحالة النفسية. لم تكن النساء في لوحاته عاريات فقط، بل كاشفات لمآزقهن الاجتماعية والروحية.

ورغم أن بعض أعماله أثارت الجدل بسبب تصوير العري، إلا أن عري محمود سعيد لم يكن مبتذلًا، بل كان فلسفيًا. كان يُعرّي الكائن الإنساني من التصنّع، ليقدّمه كما هو: نقيًا، هشًا، كاملًا، ناقصًا، خالدًا وفانيًا في آن.

كما أن أنوثة لوحاته لم تكن حكرًا على الجسد. كانت حاضرة في الألوان، في الأقمشة، في الزينة، في الجلسات الهادئة، في العيون التي تروي ولا تقول. كانت نساؤه صامتات غالبًا، لكنهن كنّ يصرخن من الداخل.

ومن المهم أيضًا الإشارة إلى أن المرأة في فنه ليست دائمًا ضحية، بل هي أيضًا سلطة. تقف في لوحاته شامخة، ثابتة، كما لو كانت تُراقب العالم من حولها دون أن تتورّط فيه. وهذا الحضور كان نادرًا في ذلك الزمن.

اختياره لرسم النساء المحليات، السمراوات، ذوات الملامح المصرية الصريحة، كان بمثابة موقف فني من النمطية الغربية. لقد احتفى بالمرأة المصرية كما هي، بلا تجميل زائف، بل بجمالها الطبيعي المرتبط بالأرض والحياة.

هذه الرؤية للمرأة تُظهر فهمًا عميقًا للطبيعة الأنثوية، وتعكس احترامًا ضمنيًا، حتى في أكثر لوحاته جرأة. لم يكن رسّام جسد، بل كان رسّام روح، وهذا ما جعل نساءه خالدات.

وهكذا، تحوّلت المرأة في فنه من كائن مرسوم إلى شخصية حيّة، من صورة إلى حضور، من جسد إلى سردية كاملة. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن محمود سعيد فهم المرأة أكثر من كثير من معاصريه، وعبّر عنها كما لم يعبّر أحد.

عالم الألوان: لغة أخرى يتحدث بها محمود سعيد

عند الحديث عن محمود سعيد، لا يمكن تجاهل لغته اللونية الفريدة. لم تكن ألوانه مجرد وسيلة تزيينية، بل كانت اللغة التي اختار أن يُعبّر بها عن مشاعره وأفكاره، خصوصًا في ظل ميله للعزلة والصمت في الحياة الواقعية.

ألوانه تُشبه الضوء السكندري في المساء: ناعمة، شفّافة، تميل إلى التأمل لا الصخب. كان يختار درجات الأصفر، والبيج، والبني، والبرتقالي، وكأنّه يُعيد تكوين الحياة من جديد على سطح اللوحة، بعيدًا عن عدوانية الألوان الصارخة.

وقد أثرت البيئة السكندرية كثيرًا على اختياراته اللونية. البحر، والسماء، وغروب الشمس على الكورنيش، والبيوت ذات الواجهات العتيقة، كلها دخلت في نسيج لوحاته، وامتزجت ببشرة نسائه، وخلفياته الغنية بالتفاصيل.

كان يعرف متى يستخدم اللون، ومتى يترك المساحة تتنفس. لم يكن يُغرق لوحته بالألوان، بل يُعطي لكل لون وزنه، ومساحته، وتأثيره. وكأن كل ضربة فرشاة هي قرار مدروس، نابع من تأمل طويل.

في بعض اللوحات، تُهيمن الأرضية الدافئة على المشهد، وفي بعضها الآخر يظهر الأزرق السماوي كنافذة على عالم روحي. توازن الألوان في أعماله يعكس اتزانًا داخليًا لا يتزعزع، حتى في لوحاته الأكثر حزنًا.

ومن الملاحظ أن ألوانه لا تسعى للصدمة، بل للتسلل. تدخل إلى المُشاهد بهدوء، وتبني داخله علاقة حميمية. لا تفرض نفسها، بل تدعوه للدخول. إنها ألوان التأمل، لا ألوان الإعلانات.

وكان هذا التوازن ناتجًا عن وعي بصري عالٍ. فقد درس الفن الغربي جيدًا، لكنه لم يقع في فخ المحاكاة. بل اختار أن يصنع لغة لونية مصرية – متوسطية، تشبه النور الشرقي ولا تُشبه الشمس الأوروبية القاسية.

وتُظهر ألوانه أيضًا وعيًا بالعلاقة بين الظل والنور. كان يعرف كيف يُبرز موضوعه الرئيسي من خلال الظلال، دون أن يُفرغ الخلفية من معناها. في كل زاوية، هناك معنى، وفي كل ضوء، هناك قصد.

لقد قدّم محمود سعيد الألوان ككيانٍ فلسفي. ليست مجرد عناصر تشكيلية، بل أدوات تفكير، وأحيانًا وسيلة تعبير عن ما لا يُقال. لذلك، يصعب الحديث عن أعماله دون الحديث عن تلك النغمات اللونية الفريدة.

وهكذا، لم يكن رسامًا فقط، بل شاعرًا بالألوان. صاغ بها عالمه، وحلم بها، وتركها تحكي قصته حين اختار هو أن يكتفي بالصمت.



هل كان المحتوى مفيداً؟

نعم
لا
شكرا لك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى