في عالم أدبي يتغيّر باستمرار، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية تُستخدم في توليد النصوص أو تحليلها، بل أصبح عنصرًا فاعلًا في إعادة تشكيل بنية السرد ذاتها. لقد تجاوزنا مرحلة النظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه “كاتبًا بديلًا”، ودخلنا زمنًا يُعيد فيه الذكاء الاصطناعي صياغة الحدود بين الراوي والقارئ، وبين الزمن السردي والفضاء التخييلي، بحيث تظهر لنا أنماط سردية جديدة، قوامها اللاخطية، والتفاعل الفوري، وتعددية الأصوات.
لقد مكّن الذكاء الاصطناعي من تطوير أشكال سردية ذات قدرة هائلة على التكيّف مع القارئ، حيث لم يعد النص ثابتًا، بل أصبح كيانًا ديناميكيًا يستجيب لتفضيلات المتلقي، بل ويتفاعل مع حالته النفسية آنياً. هذا الشكل الجديد من التفاعل يغيّر موقع القارئ من متلقٍ سلبي إلى مشارك حيوي في خلق المعنى، وهو تحول جذري لم تعهده الأجناس الأدبية التقليدية.
وبهذا، فإن الذكاء الاصطناعي لم يُلغِ مركزية الإنسان في فعل السرد، بل أعاد توزيع الأدوار بين الإنسان والآلة، بحيث تُنتج النصوص ضمن “بيئة سردية هجينة”، تُدار فيها الجماليات السردية عبر خوارزميات ذات وعي شبكي، قادر على استيعاب التكرار، الانزياح، والتضمين، وإعادة توليدها داخل نصوص جديدة تستفيد من العمق التحليلي للتقنيات الذكية.
				
				
الذكاء الاصطناعي وإعادة هندسة البنية السردية في الأدب المعاصر
تتجلّى هذه التحولات بوضوح في الأدب التفاعلي، حيث تُمنح للقارئ القدرة على التأثير في مصير الشخصيات أو مجرى الحبكة، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل اختياراته، والتنبؤ بمسارات محتملة تعكس طابعه النفسي أو نزعاته القرائية. لم يعد النص مغلقًا على احتمالية واحدة، بل تحوّل إلى بنية احتمالية مفتوحة، يتم توليدها في الزمن الحقيقي.
هذا التحول يرتبط مباشرة بظهور ما يُعرف بـ “السرد الحسابي”، حيث تتم برمجة آليات البناء السردي ضمن أنظمة ذكية تتعامل مع مكونات القصة —الشخصيات، العقدة، التحول، الانفراج— كبيانات قابلة للمعالجة والتعديل. وهو ما يؤدي إلى إنتاج نصوص أدبية قابلة لإعادة التشكيل آلاف المرات، دون أن تفقد قدرتها على الإثارة أو الدهشة.
لكن هذه السرديات الجديدة تثير تساؤلات فلسفية وأخلاقية عميقة: من هو المؤلف في هذا السياق؟ هل هو المبرمج؟ أم الذكاء الاصطناعي نفسه؟ أم القارئ المتفاعل؟ هذه الأسئلة تفتح الباب نحو إعادة تعريف مفهوم “الملكية الأدبية” و”السلطة الإبداعية”، وهي مفاهيم طالما كانت راسخة في تاريخ الأدب الإنساني.
من زاوية جمالية، لا يمكن تجاهل التأثير الذي تحدثه هذه البنيات السردية الجديدة على الإيقاع، النبرة، وتركيب الجمل. إذ تُنتج الخوارزميات نصوصًا قد تكون مذهلة لغويًا، لكنها تفتقد في أحيان كثيرة إلى الحس الوجودي أو العمق التأملي الذي تميزت به الكتابة البشرية. ومع ذلك، فإن قدرتها على المحاكاة والتحسين المستمر تضعنا أمام نوع من “الذكاء السردي المعمّق”، الذي قد يصل في مرحلة ما إلى ما يُشبه الوعي الأدبي الصناعي.
وفي سياق التحول الجمالي هذا، يبرز اتجاه جديد في الكتابة الإبداعية، حيث يتعاون الكُتّاب مع أنظمة ذكاء اصطناعي في خلق “نصوص مشتركة”، تمزج بين البصمة الإنسانية والقدرة التقنية الفائقة. وهذا التعاون يُعيد تشكيل مفهوم العمل الفني نفسه، حيث لا يُنظر إلى النص بوصفه منتجًا فرديًا، بل كحصيلة تفاعل بين وعيين: أحدهما بيولوجي، والآخر صناعي.
هذا الدمج بين السرد الإنساني والذكاء الاصطناعي يُنتج كذلك فضاءات جديدة للقراءة، حيث لم يعد القارئ يقرأ فقط، بل يختبر النص ضمن بيئة رقمية تفاعلية، قد تتضمن الواقع المعزز أو الواقع الافتراضي، ما يجعل من القراءة تجربة متعددة الحواس، تُدمج فيها اللغة بالصورة، والحركة بالصوت، والخيال بالبرمجة.
في المحصلة، فإن دخول الذكاء الاصطناعي إلى الحقل السردي ليس فقط تطورًا تقنيًا، بل تحولًا جماليًا عميقًا، يعيد صياغة المفاهيم الأساسية في الأدب: المؤلف، النص، القارئ، الزمن، اللغة، والخيال. وقد يكون هذا التحول هو ما يُمهّد لميلاد نوع أدبي جديد، لا تحكمه حدود الجنس الأدبي، ولا تقاليد السرد، بل تحركه الرغبة الدائمة في إعادة خلق الحكاية من جديد.
السرد التنبؤي والذكاء الاصطناعي: كيف تُصاغ الحكاية قبل أن تُروى؟
في عصر تتغذى فيه الخوارزميات على ملايين القصص والروايات والنصوص المتناثرة في فضاءات الإنترنت، بات الذكاء الاصطناعي قادرًا على التنبؤ بالبنيات السردية المحتملة حتى قبل أن يشرع المؤلف في كتابتها. لقد ولّى زمن كانت فيه القصة نتيجة عبقرية لحظة أو ومضة إلهام عابرة؛ نحن اليوم أمام سرديات تُبنى على حسابات احتمالية، تستخلص من أرشيف الإنسانية أكثر البُنى جاذبية وارتباطًا بالمشاعر. هذه ليست مجرد تقنية توليد، بل آلية توقع سردي تُقدّم القصة كتحليل إحصائي لانفعالات الإنسان وخياله.
يعتمد السرد التنبؤي على أنظمة ذكاء اصطناعي تتعلّم من ملايين النصوص كيف تتطور الحبكات، ومتى يُدخل الصراع، ومتى يُصعّد التوتر، ومتى تُقفل النهايات بطريقة ترضي الجمهور. هذا النوع من الذكاء لا يبتكر كما يفعل الإنسان، بل يتقن فن التوقع، وهي مهارة سردية من الطراز الرفيع، طالما ارتبطت بأسماء كبار الروائيين الذين عرفوا كيف يُمسكون بخيط الترقب من أول سطر حتى النهاية.
لكن، هل يمكن أن يتحول هذا التوقع إلى قيدٍ إبداعي؟ ماذا لو أصبحت الخوارزميات تُنتج فقط ما يتوقعه الجمهور؟ ماذا عن المفاجأة، والانزياح، واللامتوقّع؟ هذه التساؤلات تعيدنا إلى جوهر الفن السردي، الذي لطالما تأرجح بين نظام الفهم الجماعي، والخرق العبقري لهذا الفهم. الذكاء الاصطناعي قد يُعيد إنتاج الجيد والمُجرب، لكنه يظل حذرًا تجاه الجنون الفني الذي يصنع التحولات الحقيقية.
ومع ذلك، فإن السرد التنبؤي لا يجب أن يُفهم كاستنساخ للقديم، بل كوسيلة لاستكشاف احتمالات جديدة داخل البنية ذاتها. عبر التحليل العميق للأنماط السردية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقترح مسارات كانت ستُهمل لولا قدرته على الربط بين ما هو بعيد ومتشظٍ. هذا التنبؤ قد يكون دعوة للمؤلف لإعادة التفكير في حكاياته، لا بوصفها ابتكارًا صرفًا، بل كتحوير لموروث سردي ممتد.
ومن الزاوية الجمالية، يعيدنا السرد التنبؤي إلى فكرة “الوعي البنيوي” في الأدب. فالقصة هنا لم تعد فقط تدفقًا سرديًا حرًا، بل أصبحت تتجلى كمعمار من العلاقات والتكرارات والإشارات المضمرة. وهنا يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُسهم في تجديد البنية ذاتها، عبر اقتراح حبكات لا تُقاس بمقاييس التقاليد، بل بمؤشرات التجاوب الوجداني والتحليل الأسلوبي الآني.
السرد التنبؤي كذلك يفتح الباب أمام توليد قصص شخصية، لا تُكتَب لمجرد النشر العام، بل تفصّل حسب ذوق القارئ وسجله العاطفي والمعرفي. في هذا النوع من الكتابة، يصبح كل قارئ بطل حكايته، ويُنتَج له نصّ فريد، مبني على تركيبته النفسية. هذه فردانية السرد تؤسس لمرحلة ما بعد الرواية التقليدية، وتضعنا أمام نوع من “الحكاية التفاعلية المخصصة”، التي لا تتكرر ولا تتشابه.
لكن هذا النوع من التخصيص يُثير إشكالات جوهرية: هل تفقد الحكاية قوتها حين تُصمم على قياس المتلقي؟ وهل تُختزل القصة إلى مجرد انعكاس لما نحب ونرغب، بدلاً من أن تُفاجئنا بما لا نتوقعه؟ في هذا السياق، قد يصبح الذكاء الاصطناعي أداتنا لتفكيك الحكاية، لا لبنائها، وقد يحمل في تنبؤه المسبق نوعًا من الترويض الخيالي الذي يُفقر التجربة الأدبية من نزقها الثمين.
وبالرغم من هذه التحذيرات، لا يمكن تجاهل القوة التي يُضفيها السرد التنبؤي على صناع المحتوى التفاعلي، والألعاب السردية، وتجارب الواقع الافتراضي. في تلك المجالات، حيث الوقت والاهتمام عملة نادرة، يصبح السرد القائم على التوقع أداة ذهبية لصنع تجربة مثالية لا تُفرّط بانتباه القارئ أو اللاعب، وتضمن تدفق الإثارة والإحساس.
على المدى الطويل، قد تتحول الكتابة الأدبية نفسها إلى عملية هجينة، تتضمن أولًا مرحلة “التنبؤ السردي” الذي يقترح البنية المثالية، تليها مرحلة “الكتابة الحرة” التي يتولى فيها الإنسان ملء الهيكل بالروح واللغة والدهشة. في هذه الحالة، يصبح الذكاء الاصطناعي بمثابة مصمم معماري، والكاتب فنان الديكور الداخلي الذي يسكب ذاته داخل البنية.
في المحصلة، فإن السرد التنبؤي لا يُقصي الكاتب، بل يمدّه بأداة تحليل خفية، قد تجعل من تجربته أكثر وعيًا بذاتها، وأكثر انفتاحًا على إمكانات جديدة للقصّ. وما يبدو في البداية تدخّلًا آليًا في عالم الإبداع، قد يتحوّل، مع الزمن، إلى تعاون تأملي يعيد تعريف دور الكاتب والقارئ والخوارزمية في آنٍ واحد.