تحقيقات المفتش عمر قضية (رسالة تحذير)

لما كنت بفحص سجلات تحقيقات المفتش عمر ما بين سنة 1882 وسنة 1890 لقيت عدد منها عجيب وشيق… عدد من من التحقيقات نشرت في الجرايد، وبعضها رفض صديقي عمر إنها تنشر… وفي بعض التحقيقات ديه ما قدرش إنه يحلها أو لم يؤمن بها تماماً، وواحدة من التحقيقات ديه كانت غير طبيعية في تفاصيلها، وهحكيلكم عن القصة ديه.
في يوم بالليل من أيام شهر سبتمبر 1887، كان الجو سيء جداً، الرياح قوية، والمطر شديد، ولما جه الليل كان الجو أصعب.
كان صديقي عمر بيراجع دفاتر تحقيقاته القديمة، وقعدت أنا على المكتب بكتب مجموعة من المعلومات الطبية في ملاحظاتي… كانت زوجتي بتزور خالتها عشان كده قضيت بعض الأيام في غرفتي القديمة بشارع بغداد.
قلت وأنا ببص لصديقي: الباب بيخبط، يا ترى مين اللي هيجيلنا في الوقت ده؟
عمر: لو كان شخص عايز المساعدة، يبقى أكيد الموضوع مهم جداً.
فتح عمر الباب، كان الشخص شاب عنده 22 سنة أو أقل من كده، لابس لبس أنيق، الشمسية والجاكيت مبلولين من المطرة الشديدة اللي بره.
بصتله بتوتر في ضوء الكشاف، قدرت إني أشوف وشه باهت، عينيه حزينة، رجل خايف وقلقان.
الضيف: أنا أسف جداً على زيارتي ليك في الوقت المتأخر ده.
عمر: إنت جيت من الفرستق، زي ما أنا شايف.
الضيف: أيوه من الغربية.
الوحل اللي على جزمتك بيدل للمكان ده بالظبط.
الضيف: عشان أطلب منك إنك تنصحني.
عمر: ديه حاجة سهلة.
الضيف: وعشان تساعدني.
عمر: ديه حاجة ما بتبقاش سهلة دايماً.
الضيف: أنا سمعت عنك من القبطان بن غازي، قال عنك إنك تقدر تحل أي لغز، وإن ما فيش أي حاجة تقدر تقف قدامك.
عمر وهو بيحرك راسه: مش بالضبط في بعض المرات اللي فشلت فيها… إن كنت أغلب المرات كنت ناجح ومتفوق، لو سمحت قرب الكرسي بتاعك من النار، وقولي إيه الموضوع المهم اللي جابك لهنا.
الضيف: موضوع مش سهل.
عمر: أنا عارف، الناس بتجيلي بعد ما يكونوا جربوا كل الطرق وما لقوش نتيجة… ما حدش أبدا بيجيلي بقضايا سهلة، لو سمحت إتفضل قولي من الأول إيه الموضوع؟.
بدأ ضيفي يحكي وهو بيحاول يدفي نفسه قدام الدفاية.
الضيف: إسمي جلال عرابي، والقضية ديه ليها علاقة بعيلتي، وعشان أقولك كل المعلومات لازم أقول الموضوع من الأول.
لجدي ولدين، عمي أمجد وأبويا جاد، أبويا عنده مصنع صغير، بينتج أجزاء العجل، وكانت الأمور كويسة، وبعد فترة إشترى شخص المصنع بمقابل مادي كبير.
عمي أمجد راح لأمريكا لما كان صغير، واشتغل في بلد هناك، وفترة الحرب وقف عن الشغل وسافر، وبعد نهاية الحرب رجع تاني للبلد… وقعد هناك ثلاث سنين أو أربعة وتقريباً.
في سنة 1870 أو 1871 رجع للقاهرة، وإشترى مجموعة من الأراضي… كان عمي معاه مجموعة من الفلوس حوشها في أمريكا، وساب أمريكا لما سُمح لأصحاب البشرة الملونة بالتصويت في الإنتخابات وده شيء ما عجبوش.
كان عمي أمجد شخص عصبي دايماً غضبان، كان اللي ظاهر إنه ما بيحبش أي حد، عاش سنين قريب من الغربية الى إن عمره ما راح البلد… كان بيمتلك مزرعة حوالين البيت، كان بيقعد فترة طويلة في أوضته ممكن توصل لأسابيع، بيدخن كتير، مش عايز أي حد ولا حتي أخوه.
بس واضح إنه حبني، شفته أول مرة لما كان عندي 12 سنة… طلب من أبويا إني أروح وأعيش معاه، وكان كويس في تعامله معايا… ولما بقي عندي 16 سنة بدأت أتولى إدارة وشؤون المنزل والمزرعة… وكنت المسؤول عن المهام والفلوس وبكلم الناس بإسمه.
كنت أقدر أتصرف في أي حاجة، وأروح أي مكان، إلا أوضة واحدة كان ممنوع عليه إني أدخلها.
وأنا صغير الفضول خلاني عايز أعرف إيه اللي موجود جوه الاوضة، بصيت من فتحة المفتاح ولقيت إن كل اللي موجود في الاوضة هي صناديق قديمة.
في يوم في شهر مارس سنة 1883، جت رسالة عليها طابع بريد أجنبي، عادة مفيش رسايل بتيجي لعمي.
مسك عمي الرسالة وقال باستغراب: خدمة بريد الغردقة.
فتح عمي الرسالة وقع منها بذر برتقال بالظبط خمس بزرات برتقال، كنت ببتسم وهقول تعليق مضحك… بس فوجئت إن ملامح وش عمي إتبدلت وعنيه برقت، وإن وشه فجأة بقى باهت، وإيده بقت مهزوزة وهو ماسك الرسالة.
قال بصوت عالي: ك، ك، ك، عرفوا يلاقوني.
سألت عمي بفزع: في إيه يا عمي، مين اللي لقاك؟
رد بخوف وقال: الموت.
قام من على الترابيزة، وخد الرسالة اللي كان مكتوب جواها حرف الكاف بخط أحمر ومفيش أي حاجة تانية غير بذور البرتقال الخمسة… يا ترى إيه اللي خوفه ورعبه بالشكل ده؟ بعد شوية لقيته نازل السلم ومعاه مفتاح وشايل صندوق صغير.
قال عمي أمجد بصوت عالي: يعملوا اللي هما عايزينه، أنا اللي هنتصر في الآخر، أطلب من مروة( الخادمة) إنها تشعل النار في الدفاية اللي في أوضتي، وأطلب المحامي خليه يجي.
نفذت اللي طلبوا مني… لما جه المحامي، أخذته وطلعنا اوضة عمي وكانت النار في الدفاية شغالة وحواليها مجموعة من الأوراق المحروقة، والصندوق الصغير مفتوح بصيت في الصندوق لقيت محفور عليه حرف الكاف ثلاث مرات.
عمي أمجد: أنا عايزك تكون موجود وأنا بكتب وصيتي يا جميل… أنا هكتب كل ممتلكاتي لأخويا ولما هو تنتهي حياته كل الأموال والأراضي والبيت هتبقى ليك… حاول تعيش بسلام ولو ما عرفتش سيب كل حاجة وإمشي.
فضلت عايش في حالة من التوتر والقلق الأيام اللي بعد كده رغم إني بدأت أهدى كل ما مرت الأسابيع وما فيش أي حاجة بتحصل…
بس عمي إتغيرت أحواله كنت حاسس إن هو خايف من حاجة… كان بيقعد أغلب الوقت في أوضته ويقفل عليه الباب من جوه… كتير من المرات كان بيخرج للمزرعة وفي إيده المسدس، ويصرخ إنه مش خايف وبعد كده يرجع للبيت بسرعة ويقفل الباب وراه بالمفتاح.
في يوم من الأيام خرج للمزرعة، بس للأسف ما رجعش أبداً… لما خرجنا ندور عليه لقيناه مرمي على الأرض في بركة مية صغيرة… ما كانش فيه أي علامات على إعتداء، وكان مستوى المية قليل جداً.
كان تقرير الشرطة إنه أنهى حياته بنفسه، بس أنا ما صدقتش ده، أنا كنت عارف كويس أوي إن هو بيكره الموت، عدى الوقت وورث أبويا كل حاجة.
عمر: لحظة لو سمحت، قصتك غريبة جداً، إمتى عمك إستلم الرسالة وإمتى توفي؟
الضيف جميل: الرسالة وصلت يوم 10 مارس 1883، وانتهت حياة عمي بعدها بسبع أسابيع في إثنين أبريل.
عمر: تمام أتفضل كمل.
أول ما جيه والدي للبيت، طلبت منه إنه يفتح الاوضة اللي مقفولة على طول… لقيت الصندوق الصغير بس كان فاضي إلا من قطعة ورق صغيرة كان مكتوب عليها ك، ك، ك، ومجموعة من الكلمات والأسماء.
أكيد الورقة ديه كانت من ضمن الأوراق اللي حرقها عمي… غير كده ما كانش في أي حاجة مهمة ثانية في الاوضة، مجموعة أوراق ليها علاقة بحياة عمي في أمريكا ودخوله للجيش.
جه والدي يعيش في البيت سنة 1884، كل حاجة كانت كويسة لغاية يناير 1885، وبالتحديد يوم 4 في الشهر… جه لوالدي رسالة ولما فتحها وقع في إيده بذور البرتقال الخمسة، كان أبويا دايماً بيضحك لما بحكيله حكاية عمى وبذور البرتقال، بس هو دلوقتي بقى خايف ومرعوب.
سأل أبويا: ده معناه إيه يا جميل ؟
رديت: ديه نفس الرسالة، بس إيه اللي مكتوب عليها؟
قرأت: حط الأوراق عند الكراسي الخشبية.
أوراق إيه اللي هو يقصدها؟ وإيه الكراسي الخشبية؟! هل يقصد الكراسي الموجودة في المزرعة؟ بس كل الورق عمي حرقها.
كان والدي مفزوع: مستحيل يحصل إحنا في بلد فيها قانون، الرسالة ديه جت منين؟
بصيت على طابع البريد وقلت: من الطور.
رفض والدي إن إحنا نبلغ الشرطة أو إن إحنا نعمل أي حاجة مكنتش قادر إني أخليه يغير رأيه.
بعد ثلاث أيام قرر أبويا إن يروح يزور واحد صاحبه بعيد عن البلد، وكنت شايف إن ديه حاجة كويسة لإنه هيبعد عن الخطر هنا… للأسف كنت غلطان، تاني يوم جاتني رسالة إن أبويا وقع في حفرة عميقة، ولما وصلتله كان لسه بيتنفس، بس ما كانش قادر إنه يتكلم وانتهت حياته بعد فترة قليلة.
كان تقرير الشرطة إن أبويا جديد على الريف، وما يعرفش الطريق، وما كانش فيه أي سياج حولين الحفرة عشان كده انتهت حياته عن طريق الخطأ.
نفس الموضوع ما لقيناش أي علامات تدل على عنف أو جريمة، ما كانش في أي آثار للأقدام، وما فيش أي حاجة إتسرقت منه، ونفس الموضوع أنا ما صدقتش وشاكك إن حد هو اللي أنهي حياته.
بالطريقة ديه بقيت أنا الوريث للأرض والبيت والفلوس، ما بعتش الحاجة و هربت زي ما عمي قال، لإن واضح إن المشكلة هتفضل تلاحقني.
انتهت حياة أبويا في يناير 1885، عدى دلوقتي سنتين وثمان شهور، عشت حياة كويسة وهادية، لغاية إمبارح الصبح… خرج الضيف من جيبه ظرف وحط اللي موجود فيه على الترابيزة خمس بزرات من البرتقال.
الضيف بحزن: نفس الرسالة بنفس حرف الكاف ونفس الملاحظة بإن أحط الأوراق عند الكراسي الخشبية، وطابع البريد اللي عليها من شرق الأتكة
عمر: وإنت عملت إيه؟
الضيف: ولا حاجة، أنا مش عارف أعمل إيه، واضح إن الموضوع خطير، وما فيش أي حاجه هتنجيني من اللي أنا فيه، بس أنا رحت للبوليس.
عمر: وإيه اللي حصل؟
الضيف: مصدقونيش، وقالوا ده ممكن يكون مقلب حد عامله فيه، وإن إنتهاء حياة أبويا وعمي مكنش جريمة قتل، بس من باب إنهم يريحوا ضميرهم بعتوا معايا شرطي للبيت.
عمر: كويس، جه معاك دلوقتي؟
الضيف: للأسف لا، الأوامر اللي عنده إنه يفضل في البيت.
عمر بغضب وهو بيضرب على الترابيزة: غباء، وليه ما جيتش على طول أول ما جاتلك الرسالة؟
أنا لسه عارف من صديقي النهاردة عنك، وبمجرد ما قالي عليك جيت وشفتك.
عمر: يعني عدى يومين على إستلامك للرسالة، ده وقت طويل جداً، عندك حاجة تاني تقدر تقولها تساعدنا؟
مد الضيف جميل إيده في جيبه وطلع ورقة زرقة وقال: هي ديه الورقة اللي إتبقت بعد ما عمي حرق كل الورق… ممكن تكون وقعت منه وما أخذتش باله منها وهو بيحرق الورق في النار.
وأضح إن هي ورقة من مذكراته، والكتابه بخط إيد عمي.
كانت الورقة عبارة عن أسماء أشخاص، وكلمات بإرسال بذور، وأسماء أشخاص جمبها كلمة مشيوا، وكلمة زيارة جمب مجموعة من الأشخاص.
عمر وهو بيرجع الورقة للضيف: دلوقتي لازم ما تهدرش أي وقت، لازم ترجع البيت، وتحط الورقة ديه في الصندوق اللي إنت قلت عليه، وتكتب ورقة وتحطها جوه الصندوق إن كل الورق عمك حرقه، وبعد كده تحط الصندوق في الكراسي الخشب اللي قالوا عليها، إنت فاهم؟
الضيف: حاضر.
عمر: الأول إحنا هنبعد عنك أي خطر، وبعد كده نعرف سر البذور، ونحاسب المجرمين.
الضيف وهو بيقوم يلبس الجاكيت بتاعه: شكرا أستاذ عمر، هعمل اللي إنت قلتلي عليه.
عمر: أعتقد إن إنت هتستخدم القطر، والساعة لسه ما جتش 9 يعني الشوارع مليانة بالناس، أعتقد إنك هتكون في أمان.
مشي الضيف، وكان لسه الجو سيء.
قعد عمر يفكر وهو بيبص للنار وقال: يا أحمد القضية ديه خطيرة جدآ.
رديت عليه: أيوه فعلاً، واضح إن الشاب ده في خطر كبير، إنت تقدر تعرف معنى ك، ك، ك؟
بدأ عمر يفكر شوية، وبعد كده قام وقف وراح عند المكتبة وبدأ يدور في الكتب لغاية ما طلع كتاب، رجع عمر وقعد على الكرسي وحط الكتاب على رجله وقال.
عمر: أولا لازم نستنتج إن العم أمجد كان في شيء قوي خلاه إنه يسيب أمريكا… لإن اللي في عمره ده ما بيحبوش إنهم يغيروا حياتهم بسهولة، وما حدش أبدا يسيب العيشة هناك ويجي عشان يعيش حياة وحيدة في بلد تانية… ده يخلينا نستنتج إنه كان خايف مرعوب من شخص أو من حاجة… دلوقتي نشوف الرسايل الثلاثة فاكر الطوابع البريدية اللي كانت عليها؟
قلت: الأول كان من الغردقة، والثانية من الطور، وثالثة رسالة من الأتكة.
عمر: من شرق الأتكة بالتحديد وده معناه إيه؟
قلت بسرعة: موانئ بحرية، يمكن اللي كاتب الرسائل ديه بيعيش على سفينة؟
عمر: بالظبط كده في حالة الغردقة، انتهت حياة أمجد بعد سبع أسابيع من استلامه للرسالة… أما في حالة الطور انتهت حياة أبو جميل بعد ثلاث أو أربع أيام من استلام الرسالة، وده لان الطور أقرب… أعتقد إن الأشخاص ديه اللي كتبت الرسالة جت في سفينة، وكانوا بيبعتوا الرسايل ديه قبل ما هم ما يوصلوا، وطبعاً السفن البخارية اللي بتوصل الرسايل بتبقى أسرع.
قلت: ممكن.
عمر: الخطر الكبير دلوقتي هيبقى على جميل، لإن الرسالة جت من الأتكة وده معناه إن ما فيش أي وقت نضيعه.
قلت برعب: معقولة ممكن ينهوا حياته؟
عمر: الأوراق اللي كانت مع العم أمجد مهمة جداً بالنسبة للأشخاص ديه… وأنا بقول أشخاص لأن مستحيل إن راجل واحد هو اللي يقدر ينفذ الجريمتين ويظهروا إنها حالات وفاة عادية… زي ما قلتلك الأوراق ديه مهمة بالنسبة ليهم، وهينهوا حياة أي حد هيمتلكها، ومعنى ك، ك، ك، ده مش إسم شخص ده إسم جماعة.
قلت: جماعة إيه؟
عمر وهو بيفتح صفحات الكتاب اللي على رجله: عمرك سمعت عن جماعة الكو كلوكس كلان، ديه جماعة إجرامية… أنشأها جنود بعد نهاية الحرب، وكانت أغراضها سياسية وخاصة نشر الرعب لذوي البشرة الملونة لمنعهم من التصويت، وانهوا حياة كل اللي ضد آرائهم… لما كانوا بيخططوا لجريمة كانوا بيبعتوا رسالة تحذير عبارة عن ورق أشجار معين، أو بذور تفاح أو برتقال… كان في الوقت ده الشخص اللي اتبعتله التحذير يسافر، أو يغير طريقته، ولو منفذش بينهوا حياته.
كانت منظمة قوية جداً وحذرة جداً، وما قدرتش الحكومة الامريكية إنها تتصدى ليها و سنة 1869 وقفت عن العمل، وإن كان في بعض أنواع الجرائم شبيهة بأفعالهم.
لتكملة القصة اضغط الزر بالاسفل






