ألمانيا تعدم 15 ألف طائر من البط والأوز والدجاج والديوك والكَركي لهذا السبب

في خطوة أثارت جدلًا واسعًا داخل الأوساط البيئية والزراعية، أعلنت السلطات الألمانية عن تنفيذ عملية إعدام جماعي لأكثر من 15 ألف طائر من أنواع البط والأوز والدجاج والديك الرومي وطائر الكركي، وذلك بعد اكتشاف بؤر إصابة بفيروس إنفلونزا الطيور عالي الخطورة في إحدى المزارع الواقعة شمال البلاد. تأتي هذه الخطوة ضمن خطة استباقية تهدف إلى احتواء انتشار الفيروس ومنع وصوله إلى باقي المقاطعات، خصوصًا أن أوروبا تواجه منذ أشهر موجة جديدة من تفشي المرض بين الطيور المهاجرة والداجنة على حد سواء.
تفاصيل القرار الألماني وأماكن التنفيذ
أوضحت وزارة الزراعة الألمانية أن عملية الإعدام تمت في ثلاث مناطق رئيسية تقع في ولايتي “سكسونيا السفلى” و”مكلنبورغ فوربومرن”، وهما من أكثر الولايات نشاطًا في إنتاج الدواجن وتربية الطيور المائية. وقد تم اكتشاف أول بؤرة للفيروس في مزرعة كبيرة تضم نحو 9000 طائر من البط والأوز، لتليها بؤرتان إضافيتان في مزارع أصغر تضم دجاجًا وديوكًا وكركيًا.
وأكدت الوزارة أن جميع الطيور في نطاق خمسة كيلومترات من موقع الإصابة خضعت للفحص، وتم إعدام القطعان التي ثبتت إصابتها أو التي كانت على تماس مباشر مع الحالات المصابة. وجرى تنفيذ العملية تحت إشراف أطباء بيطريين مختصين، وباستخدام أساليب آمنة بيئيًا للحد من التلوث أو انتقال العدوى.
السبب وراء الإعدام الجماعي
السبب الرئيسي وراء هذه الخطوة الصارمة هو اكتشاف سلالة من فيروس H5N1 المعروف بقدرته العالية على الانتشار بين الطيور، واحتمالية انتقاله إلى الإنسان في حالات نادرة. وتعتبر هذه السلالة من أكثر الأنواع شراسة ضمن عائلة إنفلونزا الطيور، إذ تسبب نفوقًا سريعًا في القطعان المصابة، وقد تمتد إلى الطيور البرية التي تهاجر عبر أوروبا في هذا التوقيت من العام.
السلطات الألمانية أكدت أن الفيروس جرى رصده لأول مرة هذا الموسم في طيور الكركي المهاجرة القادمة من شمال أوروبا، قبل أن ينتقل إلى بعض المزارع التجارية، ما استدعى تدخلاً عاجلًا لوقف سلسلة العدوى ومنع انتشارها إلى مزارع أخرى.
التأثير الاقتصادي للقرار
لا شك أن إعدام 15 ألف طائر يشكل خسارة فادحة لقطاع تربية الدواجن في ألمانيا، الذي يُعد من أهم القطاعات الزراعية في أوروبا. وتشير تقديرات أولية إلى أن الخسائر المباشرة تتجاوز ملايين اليوروهات، خاصة مع تعويض المربين عن الطيور التي تم إعدامها، إضافة إلى خسائر الإنتاج والبيض والتوريد للمطاعم والأسواق.
لكن الحكومة الألمانية اعتبرت أن الخسائر الاقتصادية قصيرة المدى أفضل من كارثة وبائية طويلة الأمد، حيث يمكن أن يؤدي انتشار الفيروس إلى إغلاق مئات المزارع وإيقاف التصدير الخارجي مؤقتًا، كما حدث في أعوام سابقة.
انعكاس القرار على السوق الأوروبية
بعد إعلان ألمانيا عن الإعدام الجماعي، سارعت عدة دول أوروبية مجاورة مثل هولندا والدنمارك وبولندا إلى رفع حالة التأهب القصوى، وأعلنت عن تعزيز المراقبة على الحدود الزراعية ومزارع الطيور التجارية. كما تم تعليق بعض صادرات الدواجن مؤقتًا من المناطق المصنفة “عالية الخطورة”.
يأتي هذا في وقت تشهد فيه أوروبا عمومًا نقصًا في إمدادات الدواجن والبيض بسبب تكرار تفشي الفيروس خلال السنوات الثلاث الماضية، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار في الأسواق الأوروبية بنسبة تتراوح بين 5% و12% في المتوسط.
كيف تتعامل ألمانيا مع إنفلونزا الطيور؟
تُعتبر ألمانيا من أكثر الدول التزامًا بالمعايير البيطرية الدولية في إدارة أزمات الأمراض الحيوانية. وتعمل وزارة الزراعة بالتعاون مع المعهد الفيدرالي للصحة الحيوانية على تطبيق نظام رقابة صارم يشمل:
- رصد دوري لمزارع الدواجن.
- فحوصات مخبرية على الطيور المهاجرة في المناطق الرطبة.
- فرض حظر مؤقت على تنقل الطيور بين المقاطعات.
- تطهير شامل للأماكن المصابة وإعادة تأهيلها قبل السماح بإعادة التربية.
وبالإضافة إلى الإجراءات الميدانية، تطلق السلطات حملات توعية دورية للمربين والهواة لتثقيفهم حول طرق الوقاية والعلامات الأولى للإصابة بالمرض.
الدروس المستفادة من التجارب السابقة
ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها ألمانيا حالات تفشٍ لإنفلونزا الطيور. ففي عام 2021، تم إعدام أكثر من 200 ألف طائر بعد انتشار واسع للفيروس ذاته في مزارع شمال البلاد. ومع ذلك، نجحت السلطات في السيطرة على الوباء خلال أسابيع بفضل الاستجابة السريعة والتنسيق بين الأجهزة البيطرية والإدارية.
اليوم، يبدو أن ألمانيا تستفيد من تلك التجربة السابقة لتطبيق إجراءات أكثر سرعة وصرامة، بهدف تقليل الخسائر ومنع انتشار العدوى عبر الطيور المهاجرة أو التجارة.
الأبعاد البيئية للقرار
رغم أن قرار الإعدام كان ضروريًا من الناحية الصحية، إلا أن بعض الجمعيات البيئية عبّرت عن قلقها من تأثير الخطوة على التنوع البيولوجي المحلي، خاصة أن بعض الطيور المعدومة مثل الكركي تُعد من الأنواع المحمية. وقد طالبت هذه الجمعيات بتوسيع برامج المراقبة البيئية لتشمل مستعمرات الطيور البرية وتقييم المخاطر قبل اللجوء إلى الإعدام الشامل.
إلا أن خبراء الصحة العامة أكدوا أن الأولوية القصوى هي لحماية الإنسان ومنع انتقال العدوى، مشيرين إلى أن احتمالات بقاء الفيروس في البيئة تزداد كلما تم تأجيل الإعدام في المناطق المصابة.
الجدل بين المنظمات البيئية والحكومة
أثارت الخطوة الألمانية نقاشًا واسعًا بين المنظمات غير الحكومية والهيئات الحكومية. فبينما ترى السلطات أن القرار هو الخيار الوحيد لاحتواء المرض، تعتبر بعض المنظمات أن هناك بدائل أقل قسوة، مثل العزل البيئي أو التلقيح الوقائي. ومع ذلك، فإن تطبيق اللقاح على نطاق واسع ما زال قيد الدراسة من قبل الاتحاد الأوروبي، بسبب تكلفته العالية ومحدودية فاعليته في بعض السلالات.
ردود الفعل الشعبية والإعلامية
في الشارع الألماني، تباينت الآراء بين من يؤيد الخطوة لحماية الصحة العامة ومن ينتقدها بسبب حجم الخسائر والضرر النفسي الذي يصيب المربين الذين فقدوا مزارعهم بالكامل. وتداولت وسائل الإعلام المحلية صورًا ومقاطع تُظهر عمليات الإعدام والنقل تحت إجراءات وقائية مشددة.
من جهتها، أكدت جمعيات حماية الحيوان أنها تراقب تنفيذ القرار لضمان أن تتم العملية بطريقة إنسانية لا تُسبب معاناة مفرطة للحيوانات.
التاريخ الأوروبي لإنفلونزا الطيور
شهدت أوروبا منذ عام 2005 أكثر من عشر موجات لتفشي إنفلونزا الطيور، أدت في مجملها إلى إعدام مئات الملايين من الطيور. وكانت أكبر موجة في 2022 عندما اضطرت فرنسا وهولندا وبولندا لإعدام أكثر من 50 مليون طائر خلال موسم واحد.
وتؤكد الدراسات الأوروبية أن انتقال الفيروس يتم غالبًا عبر الطيور المهاجرة القادمة من سيبيريا وشمال آسيا خلال فصلي الخريف والشتاء، حيث تنقل العدوى إلى الطيور المحلية أو المزارع التي تقع على مسارات الهجرة.
لماذا تتكرر موجات العدوى؟
يرى العلماء أن تغير المناخ يلعب دورًا رئيسيًا في زيادة وتيرة تفشي الفيروس، إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى تغيير مسارات الهجرة الطبيعية للطيور، مما يزيد من فرص التماس بينها وبين الطيور الداجنة. كما أن الأنشطة الزراعية المكثفة قرب المستنقعات والبحيرات تجعل العدوى أكثر احتمالًا.
تأثير الإعدام على سلسلة الغذاء
من المتوقع أن يؤدي فقدان آلاف الطيور المنتجة إلى ارتفاع أسعار اللحوم البيضاء والبيض في السوق الألمانية والأوروبية خلال الأسابيع المقبلة. وقد تبدأ بعض الشركات المستوردة في زيادة الأسعار لتعويض نقص الإمدادات المحلية.
في المقابل، أكدت الحكومة الألمانية أنها تعمل على دعم المربين المتضررين وتعويضهم ماليًا لتجنب انهيار القطاع. كما تم التنسيق مع الاتحاد الأوروبي لتسهيل استيراد كميات إضافية من الدواجن المجمدة من خارج الاتحاد مؤقتًا لتغطية العجز.
مخاطر انتقال العدوى إلى البشر
رغم أن منظمة الصحة العالمية أكدت أن خطر انتقال إنفلونزا الطيور إلى البشر لا يزال منخفضًا جدًا، فإنها حذّرت من تجاهل الإجراءات الوقائية. وقد تم وضع جميع العاملين في المزارع المصابة تحت المراقبة الطبية لمدة 10 أيام، دون تسجيل أي إصابة بشرية حتى الآن.
التكنولوجيا الحديثة في مواجهة الوباء
بدأت ألمانيا باستخدام تقنيات حديثة في المراقبة، من بينها الطائرات المسيرة (الدرونز) لمتابعة تجمعات الطيور المهاجرة في البحيرات، وتحليل الصور بالأشعة تحت الحمراء لاكتشاف أي حالات غير طبيعية بين الطيور. كما يجري تطوير نظام ذكاء اصطناعي لتوقع بؤر العدوى قبل ظهورها بناءً على حركة الطيور وبيانات الطقس.
دور البحث العلمي
تتعاون الجامعات الألمانية مع مراكز أبحاث دولية لتطوير لقاحات أكثر فاعلية ضد سلالة H5N1. كما تُجرى تجارب على لقاحات يمكن إعطاؤها عبر الماء أو العلف لتسهيل التطبيق في المزارع الكبيرة. ويتوقع أن يتم الإعلان عن نتائج أولية خلال النصف الأول من عام 2026.
الخلاصة والتوقعات المستقبلية
قرار ألمانيا بإعدام أكثر من 15 ألف طائر ليس سوى جزء من معركة طويلة ضد إنفلونزا الطيور، التي أصبحت تمثل تحديًا سنويًا للزراعة الأوروبية. ورغم حجم الخسائر، يرى الخبراء أن سرعة الاستجابة الألمانية ساهمت في تجنب انتشار أوسع كان يمكن أن يهدد الأمن الغذائي في القارة.
ومع استمرار موجات الهجرة الموسمية للطيور، ستظل السلطات في حالة استنفار دائم، بينما يأمل المزارعون في أن تثمر جهود البحث عن حلول وقائية أكثر استدامة تُجنبهم خسائر مستقبلية.
في النهاية، تُظهر هذه الأزمة مجددًا أن حماية الصحة العامة لا يمكن فصلها عن حماية البيئة والحياة البرية، وأن أي نظام غذائي مستدام يجب أن يوازن بين الأمن الحيوي والرفق بالحيوان والاستقرار الاقتصادي.






