مصر تدفع بمرشحها خالد العناني لرئاسة اليونسكو في لحظة فارقة عالمية

أعلنت جمهورية مصر العربية رسميًا ترشيح الدكتور خالد العناني، وزير السياحة والآثار السابق، لتولي منصب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، خلفًا للمديرة العامة الحالية أودري أزولاي التي تنتهي ولايتها في عام 2025. جاء هذا القرار ليعكس المكانة الثقافية والعلمية التي تتمتع بها مصر، باعتبارها من الدول المؤسسة للمنظمة وأحد أبرز الأصوات المدافعة عن حماية التراث الإنساني. ويأتي الترشيح في توقيت حساس يشهد فيه العالم أزمات ثقافية وتعليمية متصاعدة، ما يجعل من اختيار شخصية عربية ذات رؤية شاملة خطوة استراتيجية في تعزيز الحوار الحضاري بين الشرق والغرب. وتؤكد القاهرة من خلال هذا الترشيح أن لديها الكفاءات التي تجمع بين العلم والإدارة والقدرة على تمثيل القيم الإنسانية في أعلى مؤسسات الثقافة الدولية.
خالد العناني.. عالم آثار ورجل دولة
يُعد الدكتور خالد العناني من أبرز علماء الآثار المصريين في العصر الحديث، حيث وُلد عام 1971 وتخرج في كلية الآثار بجامعة القاهرة، ثم حصل على درجة الدكتوراه في علم المصريات، وواصل مسيرته الأكاديمية حتى أصبح أستاذًا بالجامعة ذاتها. امتدت خبرته إلى المشاركة في العديد من البعثات الأثرية داخل مصر وخارجها، وله عشرات الأبحاث المنشورة في مجالات علم المصريات والترميم وإدارة المواقع الأثرية. تولى إدارة المتحف المصري الكبير، قبل أن يُعيَّن وزيرًا للآثار عام 2016، ثم وزيرًا للسياحة والآثار عام 2019 بعد دمج الوزارتين. وخلال تلك السنوات، نجح في إدارة ملفات شديدة الحساسية بحكمة واحترافية جعلته يحظى بتقدير محلي ودولي واسع.
من المتحف الكبير إلى موكب المومياوات الملكية
شهدت فترة تولي الدكتور خالد العناني وزارة السياحة والآثار إنجازات ضخمة وضعت مصر في صدارة المشهد الثقافي العالمي. فقد قاد مشروع المتحف المصري الكبير، الذي يُعد أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة، وكان له الدور الأكبر في تنظيم الحدث التاريخي “موكب المومياوات الملكية” الذي نقل 22 مومياء من المتحف المصري بالتحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصرية. الحدث الذي شاهده أكثر من مليار إنسان حول العالم، مثّل رسالة حضارية راقية تؤكد أن مصر قادرة على تحويل تراثها إلى مصدر فخر عالمي. كما دعم العناني افتتاح عشرات المواقع الأثرية بعد ترميمها، وأعاد الحياة إلى العديد من المتاحف الإقليمية التي ظلت مغلقة لسنوات.
رؤية شاملة لدمج السياحة بالثقافة
حين تم دمج وزارتي السياحة والآثار عام 2019، واجه خالد العناني تحديًا غير مسبوق في التوفيق بين قطاع اقتصادي يعتمد على حركة الأسواق العالمية وقطاع ثقافي يحمل هوية الدولة وموروثها التاريخي. إلا أنه نجح في خلق نموذج إداري موحّد يقوم على مبدأ “السياحة الثقافية المستدامة”، وهي فكرة تهدف إلى تحويل التراث إلى مورد اقتصادي يحافظ على قيمته التاريخية والبيئية في آن واحد. ومن خلال رؤيته، أصبح التعاون بين الوزارات والقطاع الخاص والمجتمع المدني جزءًا من منظومة تطوير السياحة، مما أسهم في تحسين صورة مصر عالميًا وتعزيز ثقة المستثمرين في قطاعها السياحي.
الدبلوماسية الثقافية المصرية تستعيد قوتها
بفضل أسلوبه الهادئ وشخصيته الأكاديمية المتوازنة، استطاع خالد العناني أن يعيد لمصر مكانتها في المحافل الثقافية الدولية. فقد مثّل بلاده في العديد من المؤتمرات العالمية الخاصة بحماية التراث وتمويل مشروعات الحفاظ على المواقع الأثرية، كما نجح في توقيع اتفاقيات تعاون مع دول ومؤسسات كبرى لاستعادة آثار مصرية مهربة. كان حريصًا على أن يُعرّف العالم بدور مصر الحضاري لا بوصفها متحفًا للماضي فقط، بل كدولة تسعى لتوظيف تاريخها في بناء المستقبل. وتُعتبر هذه الدبلوماسية الثقافية امتدادًا طبيعيًا لدور مصر التاريخي في تأسيس اليونسكو، وتعزيز التعاون بين الشمال والجنوب.
دعم عربي وإفريقي لترشيح العناني
يحظى ترشيح الدكتور خالد العناني بتأييد واسع من الدول العربية والإفريقية التي ترى فيه مرشحًا يمثل صوت الجنوب العالمي داخل المنظمة الدولية. فمصر تسعى من خلال هذا الترشيح إلى استعادة دور المنطقة العربية في صياغة سياسات الثقافة والتعليم عالميًا. وقد بدأت وزارة الخارجية المصرية حملة دبلوماسية نشطة لحشد الدعم في العواصم المؤثرة، مع تنظيم لقاءات ثنائية ومتعددة الأطراف للترويج للبرنامج الذي يقدمه العناني. ويؤكد المراقبون أن هذا الترشيح يعكس عودة مصر إلى ممارسة دورها التاريخي في بناء الجسور الثقافية بين الشعوب، خصوصًا في ظل التحديات التي تواجه العالم في مجالات التعليم والتنوع الثقافي.
رؤية العناني لمستقبل اليونسكو
يقدم الدكتور خالد العناني رؤية متكاملة لليونسكو ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية: تعزيز التعليم كحق إنساني عالمي، وصون التراث الثقافي في ظل النزاعات والتغير المناخي، واستخدام التكنولوجيا كوسيلة لنشر الثقافة لا لطمسها. ويرى أن المنظمة بحاجة إلى إعادة هيكلة مالية تضمن استقلال قرارها، كما يدعو إلى تعزيز مشاركة الشباب في برامجها التعليمية والثقافية. ويؤمن بأن الحوار بين الحضارات هو أساس السلم العالمي، وأن اليونسكو يجب أن تكون منبرًا للتقارب لا ساحة للصراعات السياسية. هذه الرؤية تعكس فكرًا استراتيجيًا يجمع بين الخبرة الأكاديمية والرؤية الإدارية الحديثة.
التحديات التي تنتظر القيادة الجديدة لليونسكو
تواجه المنظمة في السنوات المقبلة مجموعة من التحديات الكبرى، أبرزها نقص التمويل وتراجع تأثيرها في بعض المناطق بسبب التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى. كما تواجه صعوبات في مواكبة التحولات الرقمية التي أعادت تعريف التعليم والثقافة في العالم. ويُدرك العناني أن نجاحه في قيادة المنظمة يعتمد على قدرته على تحقيق توازن دقيق بين المصالح الوطنية للدول الأعضاء والمصلحة الإنسانية العامة. ومن المتوقع أن يسعى إلى بناء تحالفات داخلية قوية داخل المنظمة، وإعادة الثقة بين الدول المانحة والدول النامية من خلال مشروعات واقعية تضمن الشفافية والفاعلية.
مصر واليونسكو.. تاريخ ممتد من الشراكة
لم يكن الترشيح المصري لهذا المنصب وليد اللحظة، بل امتدادًا لعلاقة تاريخية عميقة بين مصر واليونسكو. فقد كانت مصر من الدول المؤسسة للمنظمة عام 1945، واستضافت على أرضها العديد من مشاريعها الكبرى، من أبرزها إنقاذ معابد أبو سمبل أثناء بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، وهو المشروع الذي أصبح نموذجًا عالميًا للتعاون الثقافي الدولي. كما لعبت القاهرة دورًا محوريًا في صياغة الاتفاقيات الخاصة بحماية التراث غير المادي. اليوم، ومع ترشيح العناني، تسعى مصر إلى أن يكون هذا التاريخ رافعة جديدة لتأكيد دورها الحضاري والإنساني في القرن الحادي والعشرين.
ختامًا.. مصر تقدم للعالم قائدًا بحضارة سبعة آلاف عام
إن ترشيح الدكتور خالد العناني لرئاسة منظمة اليونسكو ليس مجرد تنافس على منصب دولي، بل هو رسالة حضارية من مصر إلى العالم تؤكد أن الثقافة والتعليم والتراث هي أدوات القوة الناعمة الحقيقية. يمثل العناني نموذجًا للعالم الذي يجمع بين التخصص والقيادة، وبين الوطنية والانفتاح الإنساني. وإذا ما كتب له الفوز بهذا المنصب، فسيكون ذلك تتويجًا لمسيرة دولة عريقة أعطت للبشرية أول أبجدية وأول جامعة وأول مفهوم للهوية. مصر بهذا الترشيح تكتب فصلًا جديدًا من فصولها الحضارية، وتقول للعالم إن منبع النور ما زال قادرًا على الإلهام، وإن قيادة الفكر الإنساني لا تزال في متناول حضارة علّمت الدنيا معنى الخلود.






