
في السادس عشر من أبريل، فتحت أبواب متحف نجيب محفوظ للجمهور مجانًا، في خطوة رمزية لا تقل أهمية عن المعروضات نفسها. هذا القرار لم يكن مجرد دعوة لزيارة المتحف، بل كان احتفاءً بمكانة الرجل الذي رسم ملامح الأدب العربي الحديث، وصنع من الحارة المصرية عالمًا متكاملًا من الرموز والفلسفات.
فتح المتحف في هذا التاريخ يعكس وعيًا مؤسسيًا بأهمية تيسير الوصول إلى الثقافة، وإدراكًا بأن الأدب لا يجب أن يُحتجز في أبراج عالية. الجمهور المصري والعربي بات أمام فرصة نادرة للتواصل مع إرث كاتب لم يكن مجرد أديب، بل مؤرخًا روحيًا لوجدان شعب كامل.
ما إن تخطو عتبة المتحف، حتى ينتابك إحساس غريب بالمهابة، فكل ركن فيه يشع بحكايات، وكل قطعة معروضة تحكي جانبًا من عقل نجيب محفوظ، بل من روح القاهرة التي أحبها وكتبها كأنها بطلة أزلية.
-
معلومات عامة عن الانسان2023-12-27
-
ما هو داء الاحمرار وما هي أسبابه؟2025-03-25
موقع المتحف: حيث تنبض الحكايات
يقع المتحف في “تكية أبو الدهب” بحي الأزهر، على بُعد خطوات من الجامع الأزهر ومنطقة الحسين، قلب القاهرة الإسلامية، وهو اختيار لم يأتِ مصادفة. هذه المنطقة تحتفظ بطابعها التاريخي العريق، وهي قريبة من الأماكن التي استلهم منها محفوظ أغلب شخصياته وأحداث رواياته.
بمجرد دخولك إلى المكان، تشعر أنك لست في متحف عادي، بل في حكاية متحركة. السقوف العالية، الجدران العتيقة، روائح الكتب القديمة التي تعبق في الهواء… كلها عناصر تُدخلك في أجواء أعمال محفوظ. الموقع بحد ذاته يُمثل احتفاءً بالأصالة والانتماء للمكان الذي عاش فيه الكاتب وكتب عنه.
وقد تم تصميم المعرض بطريقة تحترم الطابع التاريخي للمبنى، مع لمسات حداثية تحافظ على الوظيفة الثقافية دون أن تمسّ بروح المكان. الإضاءة خافتة، تعكس تواضع محفوظ وهدوءه، بينما التوزيع الداخلي يتيح للزائر الانتقال بانسيابية من مرحلة لأخرى في حياة الأديب.
قاعة البدايات: النشأة والتكوين
في البداية، يدخل الزائر إلى قاعة مخصصة لبدايات نجيب محفوظ، حيث تعرض مقتنيات من طفولته وأسرته، ووثائق أصلية عن نشأته في حي الجمالية، أحد أشهر الأحياء الشعبية في القاهرة القديمة. صور نادرة، ونسخ من شهادة ميلاده، ومقتطفات من مذكراته، تنقل الزائر إلى عالم الطفل الذي كان يحمل في قلبه بذور العبقرية.
ما يلفت الانتباه هنا هو بساطة البداية: لا مظاهر ثراء، ولا خلفية ثقافية فاخرة. مجرد شاب عادي، يقرأ الكتب بنهم في مكتبة البلدية، ويتأمل الناس في الأسواق والمقاهي. هذه القاعة تشرح الكثير عن مصدر الإلهام لدى محفوظ، وتُبرز كيف تحوّل من شاب في الجمالية إلى أول عربي يفوز بجائزة نوبل للآداب.
في هذه القاعة أيضًا، نجد توثيقًا لفترة دراسته في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، حيث بدأ اهتمامه بأسئلة الوجود والعدالة، وهي أسئلة سترافقه في كتاباته لاحقًا.
ركن الروايات: حكايات صنعت مجدًا أدبيًا
ربما يكون هذا هو القلب النابض للمتحف. قاعة الروايات تحتوي على نسخ أصلية من أعمال نجيب محفوظ، بعضها مكتوب بخط يده، وبعضها الآخر صادر في طبعاته الأولى، مع هوامش كتبها بنفسه. يستطيع الزائر أن يرى تطور أسلوبه الأدبي من رواياته الأولى ذات الطابع التاريخي مثل “عبث الأقدار”، وصولًا إلى ثلاثية القاهرة، ثم أعماله الرمزية والفلسفية مثل “أولاد حارتنا” و”اللص والكلاب”.
كل رواية لها ركن خاص بها: مقتطفات من النص، ملخص بلغة بصرية، صور لمواقع الأحداث الحقيقية، ومقاطع من أفلام مأخوذة عنها. تجد نفسك داخل “بيت السيد أحمد عبد الجواد”، أو في زقاق “المرازيق”، أو حتى بين شخصيات “ميرامار”.
هذا الركن لا يكتفي بعرض الكتب، بل يُظهر كيف تفاعلت هذه الروايات مع المجتمع، وكيف أثارت جدلًا فكريًا وسياسيًا لم ينطفئ حتى اليوم. كثير من الزوار يقفون طويلًا أمام ركن “أولاد حارتنا”، يتأملون شجاعة محفوظ في تناول الميتافيزيقيا في قالب شعبي بديع.
مقتنيات شخصية: لمحات من حياة الأديب اليومية
يحتوي المتحف على مجموعة نادرة من مقتنيات نجيب محفوظ الشخصية، تُقدّم صورة حيّة ومؤثرة عن حياته اليومية. من بينها نظاراته السميكة، قبعته الشهيرة، وأدوات حلاقة ما زالت محفوظة في علبتها الأصلية. هناك أيضًا مكتبه الخشبي، ومقعده الجلدي الذي اعتاد الكتابة عليه، وجهاز الراديو القديم الذي كان يستمع من خلاله إلى نشرات الأخبار.
المميز في هذا القسم أنه لا يُظهر نجيب محفوظ الأديب فقط، بل الإنسان أيضًا. سترى مفكرته الصغيرة المليئة بالملاحظات، وكتاباته غير المنشورة، وقصاصات الصحف التي احتفظ بها، بل حتى إيصالات بعض المشتريات اليومية، والتي احتفظ بها لأسباب لا نعرفها، لكنها تؤكد اهتمامه بالتفاصيل.
هذا الركن يدفعك للتأمل: كيف يمكن لرجل عاش ببساطة، أن يترك إرثًا بهذا الغنى؟ وكيف يمكن لهذا الهدوء الظاهري أن يحتوي على كل هذه الزلازل الأدبية والفكرية؟
وسائط متعددة: صوت وصورة محفوظ
أحد أكثر الأركان جذبًا للزوار هو ركن الوسائط المتعددة، حيث يمكن مشاهدة تسجيلات نادرة لنجيب محفوظ وهو يتحدث عن أعماله، وعن مواقفه الفكرية والسياسية. بعضها يعود لحوارات نادرة بُثت في التلفزيون المصري، وبعضها الآخر وثّقته جهات أجنبية مثل هيئة الإذاعة البريطانية.
تشاهد نجيب محفوظ وهو يتكلم بهدوء، بنبرة لا ترفع صوتها لكنها تُرغمك على الإصغاء. تسمعه يتحدث عن الحرية، عن الحارة، عن الحُب، وعن ما بعد الموت. حتى نكاته، وإن كانت خافتة، تُظهر عمق فلسفته في الحياة.
في هذا القسم أيضًا، تستعرض المتاحف الصوتية رواياته بطريقة جديدة، حيث تُعرض مقاطع تمثيلية من رواياته بصوت كبار الممثلين. يتفاعل الزوار مع هذه العروض وكأنهم يشاهدون عرضًا مسرحيًا حيًا داخل الجدران التاريخية للمتحف.
جوائز وتكريمات: حين احتفى العالم بعبقري الحارة
رُكن خاص يُعرض فيه كل الجوائز والأوسمة التي حصل عليها نجيب محفوظ، من أبرزها جائزة نوبل للآداب عام 1988، التي منحته إياها الأكاديمية السويدية لتصويره “لأفكار إنسانية عالمية عبر روايات مصرية”. يُعرض أيضًا نص الخطاب الرسمي للجائزة، مع صور من الحفل الذي تسلم فيه التكريم نيابة عنه ابنته.
تجد في هذا الركن أيضًا وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وسام الجمهورية، والعديد من شهادات الدكتوراه الفخرية. كل جائزة لها حكاية، وكل تكريم يمثل اعترافًا عالميًا بموهبة لا تتكرر كثيرًا.
هذا الجزء من المتحف ليس للافتخار فقط، بل ليُذكرنا بأن الأدب يمكن أن يكون جسراً بين الشعوب، وأن صوتًا صادرًا من زقاق مصري قد يصل إلى أعظم قاعات الاحتفال في أوروبا.
مكتبة المتحف: بوابة للدراسة والبحث
خصص المتحف ركنًا للباحثين والطلاب، يحتوي على مكتبة تضم كل ما كُتب عن نجيب محفوظ، سواء من دراسات نقدية، أو ترجمات أجنبية لأعماله، أو مقالات صحفية. يستطيع الزوار الجلوس هناك، تصفح الكتب، أو حتى المشاركة في فعاليات ثقافية تُنظم بشكل دوري.
هذا الركن يُتيح للجيل الجديد أن يتعرف على محفوظ ليس فقط من خلال رواياته، بل من خلال السياق الذي كُتبت فيه أعماله، والنقاشات التي أثارتها. إنه مساحة لخلق امتداد فكري حي لما بدأه الرجل منذ عقود.
ماذا يعني فتح المتحف مجانًا للزوار؟
القرار بفتح المتحف مجانًا يوم 16 أبريل ليس مجرد حدث، بل إعلان عن نية ثقافية عميقة: أن الثقافة للجميع، وأن إرث نجيب محفوظ ملك لكل المصريين والعرب. هو يوم تعليمي، وتأملي، واحتفالي، يجمع بين الفن والتاريخ والحب.
في مثل هذا اليوم، تتراجع الفوارق الطبقية، ولا يصبح الدخول للمتحف حكرًا على القادرين، بل دعوة للجميع لاكتشاف الذات من خلال عيون محفوظ. وهذا بحد ذاته تجسيد لما آمن به الكاتب: أن الجمال موجود في الحارة، وأن الحكمة تسكن الزوايا المنسية.
المتحف ككائن حي: رسالة لا تنتهي
في النهاية، متحف نجيب محفوظ ليس مجرد مبنى أو مجموعة مقتنيات. إنه كائن حي ينبض بالحياة، يتحدث بلغات متعددة، ويخاطب زوارًا من مختلف الخلفيات. إنه تذكرة دائمة بأن الكتابة يمكن أن تُخلّد الإنسان، وأن الحكاية يمكن أن تغيّر العالم.
من يزور هذا المكان، لن يعود كما دخل. سيتغير شيء بداخله. ربما سيفكر في حكاياته الشخصية بشكل أعمق، ربما سيكتب، وربما سيتعلم كيف يصغي لما حوله من بشر، من أصوات، ومن أماكن.
متحف نجيب محفوظ هو بداية رحلة. رحلة في الداخل، وفي العالم الخارجي، عبر عيون من قال ذات مرة: “الواقع لا يُهمني، أنا أكتب عن الممكن”.






