ظاهرة مؤلمة: لماذا يتخلى بعض الأهالي عن أطفالهم الرضع؟ دعوة للرحمة والمسؤولية

فيديو يهز القلوب ويوقظ الضمير الإنساني
انتشر خلال الأيام الماضية فيديو صادم على منصات التواصل الاجتماعي يوثّق لحظة تخلي أسرة عن طفلها الرضيع في أحد شوارع القاهرة، في مشهد يُقطّع نياط القلوب ويهزّ الوجدان الإنساني.
تُظهر اللقطات أمًّا تُواري وجهها خوفًا من الكاميرا، وأبًا يترك كيسًا صغيرًا بجوار الرضيع ثم يرحل سريعًا، فيما يبكي الطفل بصوت خافت، وكأنّه يسأل العالم عن ذنبه.
هذا الفيديو لم يكن مجرد مشهد عابر، بل فتح جرحًا اجتماعيًا عميقًا وأعاد إلى الواجهة **ظاهرة التخلي عن الأطفال الرضع**، التي بدأت تطفو على السطح في المجتمع المصري والعربي خلال السنوات الأخيرة.
ووسط ردود الفعل الغاضبة والحزينة، تحركت الجهات المعنية وعلى رأسها وزارة التضامن الاجتماعي والمجلس القومي للطفولة والأمومة، مؤكدين أن الدولة لن تتهاون مع أي انتهاك لحقوق الطفل، وأن حماية الأطفال مسؤولية وطنية ومجتمعية وإنسانية في آن واحد.
لكن، خلف هذا المشهد المؤلم، تتوارى قصص كثيرة وأسباب معقدة، تتشابك فيها خيوط الفقر، والجهل، والعجز، والاضطرابات النفسية، والضغوط الاقتصادية، والتفكك الأسري.
الظاهرة بين الواقع والإحصاءات
بحسب تقارير رسمية صادرة عن وزارة الداخلية والمجلس القومي للأمومة والطفولة، تم تسجيل مئات الحالات سنويًا لأطفال رُضّع يتم العثور عليهم في الشوارع أو أمام المساجد والمستشفيات.
وتُظهر البيانات أن محافظات القاهرة والجيزة والشرقية والدقهلية تتصدر هذه الحالات، بينما تُسجل المدن الكبرى النسبة الأعلى بسبب الكثافة السكانية.
ويشير خبراء علم الاجتماع إلى أن هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، لكنها تفاقمت في السنوات الأخيرة نتيجة الأزمات الاقتصادية، وتراجع منظومة الدعم الأسري، وتزايد نسب الطلاق المبكر، فضلًا عن ضعف الوعي بمسؤولية الأبوة والأمومة.
ويرى علماء الاجتماع أن التخلي عن الأطفال الرضع جريمة اجتماعية قبل أن تكون قانونية، لأنها تعبّر عن **انهيار منظومة الرحمة داخل بعض النفوس**، وتكشف عن هشاشة القيم في ظل الضغوط المتزايدة التي يعيشها المجتمع.
ومع ذلك، لا يمكن النظر إليها بمنظار واحد، فكل حالة تحمل مأساة خاصة، وظروفًا قد تدفع البعض إلى ارتكاب هذا الفعل في لحظة ضعف أو انهيار كامل.
الأسباب الخفية وراء التخلي عن الأطفال
من خلال تحليل الحالات الموثقة والدراسات الميدانية، يمكن تلخيص الأسباب الرئيسية في النقاط التالية:
- الفقر والعجز المالي: كثير من الأسر تعاني من انعدام الدخل أو ارتفاع الأسعار، ما يجعلها عاجزة عن تربية طفل جديد.
- الحمل خارج إطار الزواج: وهو أحد الأسباب الحساسة التي تدفع بعض الفتيات إلى التخلص من المولود خوفًا من الفضيحة أو الرفض الاجتماعي.
- اضطرابات نفسية: بعض الأمهات يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة، وهو مرض نفسي خطير قد يؤدي إلى الانفصال عن الواقع أو رفض الطفل.
- تفكك أسري: الخلافات الزوجية والطلاق السريع قد يخلق بيئة غير مستقرة تدفع أحد الطرفين للتخلي عن الطفل انتقامًا أو يأسًا.
- ضعف الوعي القانوني: بعض الأسر تجهل أن القانون المصري يعتبر التخلي عن الطفل جريمة يعاقب عليها بالسجن.
الإطار القانوني: حماية الطفل ليست خيارًا بل التزامًا
ينص قانون الطفل المصري رقم 126 لسنة 2008 على أن لكل طفل الحق في الحياة الآمنة والرعاية الأسرية، وأن حرمانه منها يُعد انتهاكًا يعاقب عليه القانون.
وتنص المادة (96) على تجريم كل من يُعرّض الطفل للخطر أو الإهمال أو التخلي، وتصل العقوبة إلى السجن المشدد والغرامة في حال التسبب بأذى بدني أو نفسي للطفل.
كما أصدرت وزارة التضامن الاجتماعي تعليمات صارمة بتفعيل منظومة “الخط الساخن لحماية الطفل 16000”، لتلقي البلاغات بشأن أي حالة يُشتبه في تعرضها للإهمال أو التخلي.
ويؤكد القانون أيضًا أن المسؤولية المجتمعية لا تقل أهمية عن المسؤولية القانونية، إذ يجب على كل مواطن الإبلاغ عن أي حالة تخلي فورًا، لأن “السكوت عن الجريمة مشاركة فيها”.
وهكذا، يتحول الحفاظ على الطفل من واجب إنساني إلى واجب وطني وديني واجتماعي.
دور الدولة والمؤسسات في إنقاذ الأطفال
تتحرك أجهزة الدولة عبر مسارات متوازية لمواجهة الظاهرة، منها:
- الإنقاذ الفوري: فرق الطفولة والأمومة بالتعاون مع الشرطة تتعامل فورًا مع أي بلاغ.
- الرعاية البديلة: يتم إيداع الطفل في دور رعاية معتمدة تتوفر فيها الرعاية الطبية والنفسية الكاملة.
- التأهيل النفسي للأمهات: بعض الحالات يتم فيها احتواء الأم وإعادة دمجها اجتماعيًا بعد تلقي العلاج النفسي.
- المتابعة القانونية: ملاحقة المتسببين قضائيًا لضمان عدم تكرار الحادثة.
كما أطلقت الوزارة حملة توعية تحت شعار “حضن مش زنزانة”، للتأكيد على أن الرحمة هي الطريق الوحيد لإنقاذ الأطفال من الضياع.
الجانب الإنساني: دموع لا تراها الكاميرا
وراء كل طفل متروك قصة مؤلمة لا تُروى.
طفل يبحث عن صدر أمّ، وأمّ ربما تبكي في مكان ما بصمت وذنبٍ لا يغتفر.
إنها مأساة تُعرّي وجداننا وتُجبرنا على مواجهة سؤال الرحمة والضمير.
فما الذي يجعل قلبًا بشريًا يقسو إلى درجة ترك روح بريئة تصرخ وحدها في الشارع؟
ربما الجهل، وربما الفقر، وربما انكسار الأمل، لكن المؤكد أن فقدان **الرحمة الإنسانية** هو الجريمة الأكبر.
ولعل الفيديو الأخير الذي انتشر كان بمثابة “صفعة على وجه الإنسانية”، إذ أجبر الجميع على التوقف والتفكير في حجم الانحدار الأخلاقي الذي قد نصل إليه حين تُطفأ فينا شرارة الحنان.
المجتمع بين الغضب والرحمة
أثار الفيديو حالة من الغضب الشعبي الكبير، وتصدّرت مواقع التواصل منشورات تحمل عبارات مثل “فين الرحمة؟” و“الطفل دا ذنبه إيه؟”، لكن اللافت أيضًا كان وجود أصوات تدعو إلى الرحمة بدل الإدانة المطلقة، معتبرين أن التخلي عن الطفل – رغم بشاعته – قد يكون أحيانًا صرخة استغاثة من قلب مكسور لا يجد من يعينه.
فالبعض يرى أن الحل ليس فقط في العقاب، بل في العلاج، في بناء منظومة دعم نفسي واقتصادي واجتماعي تقي الأسر من الوصول إلى لحظة التخلي.
إن التوازن بين القانون والرحمة هو جوهر العدالة الاجتماعية.
فالمجتمع الذي يعاقب دون أن يعالج، يزرع مزيدًا من الألم.
أما المجتمع الذي يُحسن الإصغاء، فيمكنه أن يُنقذ آلاف الأرواح من مصير مجهول.
دور الإعلام: من التوثيق إلى التوعية
لعب الإعلام دورًا محوريًا في تسليط الضوء على هذه القضايا، لكنه يحتاج إلى التحول من “رصد الصدمة” إلى “صناعة الوعي”.
فالمطلوب اليوم ليس فقط نشر الفيديوهات، بل بناء خطاب توعوي يزرع المسؤولية الأسرية في وجدان الناس، ويشرح آثار التخلي النفسية والقانونية والاجتماعية على الطفل والمجتمع.
يجب أن تكون وسائل الإعلام شريكًا في الحل، لا مجرد ناقل للحزن.
وفي هذا السياق، بدأت بعض القنوات والبرامج الاجتماعية في عرض قصص إنسانية مؤثرة لأطفال تم إنقاذهم وتبنّيهم، بهدف بث الأمل والتأكيد على أن “كل طفل يستحق فرصة للحياة”.
الجانب الديني: صوت الرحمة فوق كل الأصوات
في الإسلام، الطفل أمانة لا يجوز التفريط فيها تحت أي ظرف.
قال النبي ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”، وهذه المسؤولية تمتد لتشمل الرعاية النفسية والجسدية والمعنوية.
ويؤكد العلماء أن التخلي عن الطفل يدخل في باب “إلقاء النفس إلى التهلكة”، وأن الرحمة بالأطفال عبادة تُقرب إلى الله أكثر من آلاف الصلوات.
وفي المسيحية أيضًا، يُعد الطفل رمزًا للنقاء والمحبة، والتخلي عنه يُعد خيانة للوصايا الإلهية التي تدعو إلى حماية الضعفاء.
إذن، لا مبرر ديني أو أخلاقي أو إنساني يُجيز التخلي عن طفل بريء، أيًا كانت الأسباب.
الأثر النفسي على الطفل
تُظهر الدراسات النفسية أن الطفل الذي يُحرم من الرعاية منذ الأشهر الأولى من عمره يُعاني من اضطرابات سلوكية عميقة، أبرزها فقدان الثقة، والخوف المزمن، واضطراب الهوية.
كما أن غياب الحنان المبكر قد يؤدي إلى انعدام القدرة على تكوين علاقات صحية في المستقبل، مما يخلق دائرة متكررة من العجز العاطفي والحرمان.
لذا فإن الرعاية الأسرية ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية لنمو الطفل السليم جسديًا وعقليًا ونفسيًا.
دعوة للرحمة والمسؤولية
إن هذا المقال ليس دعوة للبكاء على الواقع، بل نداء إلى الضمير الإنساني للصحوة من سباته.
فكل طفل يُترك هو نداء استغاثة موجه لكل فرد في المجتمع: للأب، للأم، للجيران، وللدولة.
علينا جميعًا أن نعيد تعريف معنى “الأسرة” و“المسؤولية” و“الرحمة”.
أن نزرع في مدارسنا ثقافة “الحياة قيمة”، وأن نعلّم أبناءنا أن الطفل ليس عبئًا بل هدية من الله.
وأن المجتمع المتراحم أقوى من كل الأزمات، لأن الرحمة طاقة وطنية تحفظ تماسك الأمة أكثر من القوانين.
لمشاهدة الفيديو اضغط الزر بالاسفل






