الصحة والجمال

دراسة: الحليب كامل الدسم لا يضر القلب كما كان يُعتقد سابقًا

لطالما اعتُبر الحليب كامل الدسم عدوًا لصحة القلب لعقود طويلة، وظلّت التوصيات الطبية تدعو الناس إلى تجنّب الدهون المشبعة الموجودة فيه، والاعتماد على منتجات الألبان منخفضة أو منزوعة الدسم. لكن دراسة حديثة قلبت هذه المفاهيم رأسًا على عقب، بعدما كشفت أن تناول الحليب كامل الدسم لا يرتبط بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب، بل قد يساهم في تعزيز صحة القلب عند تناوله باعتدال ضمن نظام غذائي متوازن.

هذا الاكتشاف الجديد يفتح الباب أمام مراجعة واسعة لتوصيات التغذية التي سادت في العالم خلال النصف قرن الأخير، ويطرح تساؤلات حول مدى دقّة النظريات القديمة التي ربطت الدهون المشبعة مباشرة بارتفاع الكوليسترول وأمراض الشرايين.

خلفية تاريخية: من أين جاءت سمعة الحليب السيئة؟

في منتصف القرن العشرين، انتشرت فكرة أن الدهون المشبعة هي المسبب الرئيسي لارتفاع الكوليسترول الضار في الدم، وبالتالي لأمراض القلب. هذه النظرية، التي عُرفت باسم «فرضية الدهون»، دفعت الأطباء وخبراء التغذية إلى التوصية بتقليل استهلاك الأطعمة الدهنية، وعلى رأسها الزبدة والحليب كامل الدسم.

بناءً على هذه الفرضية، قامت معظم الهيئات الصحية العالمية لعقود بإدراج منتجات الألبان منزوعة الدسم في قمة التوصيات الصحية، بينما جرى التحذير من استهلاك الحليب كامل الدسم باعتباره “مصدرًا خطرًا للدهون”. إلا أن الأبحاث الحديثة بدأت تُظهر صورة مختلفة، مع ملاحظات علمية متكررة بأن هذه الدهون ليست ضارة بالدرجة التي كنا نتصورها.

الدراسة الحديثة: ماذا وجدت؟

نُشرت الدراسة الأخيرة في مجلة European Journal of Preventive Cardiology، وشملت متابعة أكثر من 4000 شخص على مدار 16 عامًا. ووجد الباحثون أن الأفراد الذين تناولوا كميات معتدلة من منتجات الألبان كاملة الدسم لم يكن لديهم خطر أعلى للإصابة بأمراض القلب مقارنةً بمن تناولوا الحليب منزوع الدسم، بل على العكس، تمتعوا بمستويات أفضل من الكوليسترول الجيد (HDL).

وأوضح الباحثون أن العلاقة بين الدهون المشبعة وأمراض القلب أكثر تعقيدًا مما كان يُعتقد سابقًا. فليس كل دهون مشبعة تتصرف بالطريقة نفسها في الجسم، كما أن وجود عناصر غذائية أخرى في الحليب مثل الكالسيوم والبروتين والفيتامينات قد يغيّر من تأثير الدهون ويجعله أقل ضررًا أو حتى مفيدًا في بعض الحالات.

كيف يؤثر الحليب كامل الدسم على القلب؟

يحتوي الحليب كامل الدسم على حوالي 3.5% من الدهون، وهي خليط من الأحماض الدهنية المشبعة وغير المشبعة. هذه الدهون تلعب دورًا مهمًا في امتصاص الفيتامينات الذائبة في الدهن مثل A وD وE وK. كما أن وجودها يساعد في الإحساس بالشبع ويقلل من الرغبة في تناول كميات كبيرة من الطعام.

وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الدهون الموجودة في منتجات الألبان تختلف عن تلك الموجودة في اللحوم الحمراء أو الزيوت المهدرجة، إذ تحتوي على مركّبات فريدة مثل حمض البوتيريك وحمض اللينوليك المترافق (CLA)، وكلاهما لهما تأثيرات مضادة للالتهاب ومفيدة للأوعية الدموية.

الكوليسترول.. ليس كله سيئًا

من الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأن كل ارتفاع في الكوليسترول يعني خطرًا مباشرًا على القلب. لكن الحقيقة أن الكوليسترول ينقسم إلى نوعين: LDL المعروف بالكوليسترول “الضار”، وHDL المعروف بالكوليسترول “النافع”.

أظهرت الدراسة أن استهلاك الحليب كامل الدسم قد يرفع قليلًا من مستوى الكوليسترول الكلي، لكنه في المقابل يرفع أيضًا من الكوليسترول الجيد، ما يحافظ على التوازن المطلوب لصحة القلب. بمعنى آخر، ليس المهم الرقم الكلي للكوليسترول، بل نسبة التوازن بين النوعين.

مقارنة بين الحليب كامل ومنزوع الدسم

الاختلاف الأساسي بين النوعين هو نسبة الدهون، لكن هذا الفرق الصغير له تأثير كبير على القيمة الغذائية. فالحليب منزوع الدسم يحتوي على سعرات أقل، لكنه يفقد جزءًا من الفيتامينات الذائبة في الدهون، بينما يوفر الحليب كامل الدسم هذه الفيتامينات بكفاءة أعلى.

كما أن الطعم الكريمي للحليب كامل الدسم يجعله خيارًا مفضلًا لدى الكثيرين، ويساعد في زيادة الإحساس بالشبع بعد تناوله. ووفقًا للباحثين، فإن الأشخاص الذين يتناولون الحليب كامل الدسم يميلون إلى الشعور بالامتلاء لفترة أطول، مما قد يساعدهم على التحكم في الوزن على المدى الطويل.

رأي الأطباء وخبراء التغذية

يقول الدكتور جوناثان ريفز، أستاذ التغذية في جامعة أكسفورد، إن «الاعتقاد بأن الحليب كامل الدسم مضر للقلب يحتاج إلى مراجعة جذرية»، مضيفًا: «الأبحاث الحديثة تظهر أن تناول الدهون الطبيعية ضمن نظام متوازن لا يسبب بالضرورة أمراض القلب».

بينما توضح الدكتورة سارة المصري، أخصائية التغذية العلاجية، أن «الخطر لا يأتي من الحليب نفسه، بل من نمط الحياة العام، مثل قلة النشاط البدني والإفراط في الأطعمة المصنعة». وتنصح بأن «أفضل أسلوب هو الاعتدال، فشرب كوب أو كوبين من الحليب كامل الدسم يوميًا لا يشكّل ضررًا، بل قد يعود بالنفع على الجسم».

فوائد أخرى للحليب كامل الدسم

  • يحتوي على نسبة عالية من الكالسيوم الذي يدعم صحة العظام والأسنان.
  • يساعد على امتصاص فيتامين D الضروري لصحة الجهاز المناعي.
  • يساهم في تحسين الحالة المزاجية بفضل احتوائه على التربتوفان، وهو حمض أميني يساعد في إنتاج السيروتونين.
  • يقلل من خطر الإصابة بمتلازمة الأيض، بحسب دراسات متعددة.
  • يدعم نمو العضلات بسبب محتواه من البروتين الكامل.

هل هناك حالات يُفضل فيها تجنب الحليب كامل الدسم؟

رغم فوائده، إلا أن بعض الحالات تحتاج إلى الحذر، مثل مرضى الكوليسترول الوراثي أو من يعانون من أمراض الشرايين المتقدمة. كذلك الأشخاص الذين لديهم حساسية من اللاكتوز يجب أن يتجنبوا الحليب العادي أو يستبدلوه بمنتجات خالية من اللاكتوز.

ماذا تقول منظمة الصحة العالمية؟

توصي منظمة الصحة العالمية بالحد من تناول الدهون المشبعة بحيث لا تتجاوز 10% من إجمالي السعرات اليومية، لكنها لم تذكر الحليب كامل الدسم تحديدًا كمنتج يجب منعه، بل تشجع على تناول منتجات الألبان ضمن نظام غذائي متوازن يحتوي على الفواكه والخضروات والبروتينات الصحية.

الحليب كامل الدسم في الأنظمة الغذائية الحديثة

في السنوات الأخيرة، بدأت أنظمة غذائية جديدة مثل الكيتو دايت والدايت منخفض الكربوهيدرات تعتمد على الدهون كمصدر للطاقة، مما أعاد الاعتبار للحليب كامل الدسم. هذه الأنظمة تؤكد أن الدهون الجيدة تساعد في ثبات مستويات السكر والطاقة وتحسين وظائف الدماغ.

نصائح لاستهلاك صحي للحليب

  • اختر الحليب الطازج الموثوق المصدر لتجنب المضافات الصناعية.
  • تناول كوبًا واحدًا إلى كوبين يوميًا فقط، ويفضل في الصباح أو بعد التمارين.
  • امزج الحليب كامل الدسم مع الشوفان أو القهوة لزيادة الفائدة الغذائية.
  • تجنب إضافة السكر أو النكهات الصناعية التي تقلل من فوائده الصحية.
  • احرص على تنويع مصادر الكالسيوم بين الحليب، الزبادي، والجبن الطبيعي.

الخلاصة: إعادة الاعتبار لمنتج طبيعي

توضح هذه الدراسة أن الشيطان لم يكن في الحليب، بل في سوء الفهم العلمي. فبعد سنوات من الاتهام، يعود الحليب كامل الدسم ليتربع على عرش المائدة كمنتج طبيعي متوازن يوفر الفيتامينات والدهون الصحية دون أن يشكّل خطرًا مباشرًا على القلب.

ورغم أن العلماء ما زالوا يدرسون تفاصيل العلاقة بين الدهون المشبعة وصحة القلب، فإن الاتجاه العام للأبحاث يؤكد أن الاعتدال هو المفتاح. فليس من المنطقي تجريم نوع كامل من الطعام الطبيعي، بل الأهم هو النظام الغذائي الكلي ونمط الحياة المتوازن.

نظرة مستقبلية

من المتوقع أن تشهد السنوات المقبلة المزيد من الدراسات التي تراجع المفاهيم القديمة في التغذية، خصوصًا مع تطور تقنيات التحليل الجزيئي وفهم تأثير الأغذية على الجسم بشكل فردي. وربما يأتي يوم تُدرج فيه منتجات الألبان كاملة الدسم ضمن قوائم الأطعمة “القلبية المفيدة” بدلًا من قوائم التحذير.

في النهاية، الحليب كامل الدسم ليس عدوًا كما كان يُعتقد، بل جزء من منظومة غذائية متكاملة يحتاجها الجسم إذا أُحسن استخدامها. وكما قال أحد الخبراء: «ليست الدهون هي التي تقتل، بل الجهل بطريقة استخدامها».



هل كان المحتوى مفيداً؟

نعم
لا
شكرا لك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى