
في عام 970 ميلاديًا، بدأت أولى اللبنات تُوضع في واحد من أهم صروح الإسلام: الجامع الأزهر. لم يكن البناء حينها مجرد تشييد مسجد لأداء الصلاة، بل كان مشروعًا حضاريًا متكاملًا يعكس طموح الفاطميين لتأسيس عاصمة دينية وثقافية في قلب العالم الإسلامي.
اختار القائد الفاطمي جوهر الصقلي مكان الجامع بدقة، وسط مدينة القاهرة الوليدة، ليكون منارة لنشر المذهب الإسماعيلي، وبمرور الزمن تحوّل الجامع إلى مرآة حضارية للإسلام الوسطي والعلمي، جامعًا بين العبادة والدرس، بين الفن والمعرفة.
حجر الأساس.. بداية الطريق نحو ألف عام من العلم
حين وُضع حجر الأساس للجامع الأزهر، لم يتخيّل أحد أنه سيكون شاهداً على عصور كاملة من التحوّل السياسي والديني في مصر والعالم العربي. فخلال أقل من ثلاث سنوات، اكتمل بناء المسجد، وبدأت تقام فيه أولى الصلوات والدروس.
بداية متواضعة تحوّلت إلى مسيرة علمية ضخمة، إذ سرعان ما أصبح الأزهر مركزًا للتعليم الفقهي والفلسفي، مع استقدام العلماء من شتى أرجاء العالم الإسلامي، فصار الجامع، قبل أن يكون مؤسسة، رمزًا للهوية الدينية والفكرية.
الجامع الأزهر بين العبادة والعلم
منذ لحظة إنشائه، كان الجامع الأزهر مكانًا يؤدي فيه المسلمون شعائرهم، لكنه أيضًا سرعان ما تحوّل إلى معهد علمي نابض بالحياة. اجتمع في ساحاته العلماء والطلاب من جميع الأقطار الإسلامية، يتبادلون المعرفة ويحفظون التراث.
هذا التوازن بين الروحي والعقلي، بين العبادة والتدريس، جعل من الأزهر نموذجًا نادرًا لجامع يضم رسالة مزدوجة: صلاة وروح، وعلم ونور، متجاوزًا وظيفته التقليدية إلى دور ثقافي واجتماعي بالغ التأثير.
الأزهر في ظل الدولة الفاطمية
عندما أنشأ الفاطميون الجامع الأزهر، كانوا يسعون لتعزيز وجودهم السياسي والديني، فجعلوه مركزًا لتدريس المذهب الإسماعيلي الشيعي الذي اعتنقوه. وعبر الخطب والدروس، سعت الدولة لبسط نفوذها الفكري.
لكن التاريخ كانت له كلمة أخرى، إذ ما لبث الأزهر أن تحوّل لاحقًا إلى قلعة للمذهب السني، خصوصًا بعد دخول صلاح الدين الأيوبي إلى مصر، لتبدأ رحلة جديدة من التحوّل داخل أروقة الجامع، جعلته يتكيّف مع مختلف العصور والتيارات.
المعمار الذي يروي ألف قصة
يُعد الجامع الأزهر تحفة معمارية فريدة، تعكس مزيجًا من التأثيرات الفاطمية والمملوكية والعثمانية التي مرّت على مصر. فقد شهد المسجد توسعات وترميمات كثيرة عبر القرون، أضافت إليه طبقات من الفن والروح.
من مآذنه الشاهقة إلى أعمدته الرخامية وزخارفه الإسلامية الدقيقة، يُحاكي الأزهر وجدان الزائر، ويأخذه في رحلة عبر التاريخ. كل جدار فيه يروي حكاية زمن، وكل قوس يحمل عبق عصور مضت دون أن تُمحى.
الأزهر منبر الحرية في مواجهة الاستعمار
في القرون الأخيرة، لم يكن الجامع الأزهر مجرد معهد ديني، بل تحوّل إلى صوت وطني ضد الاحتلال. فقد لعب دورًا محوريًا في مواجهة الحملة الفرنسية، وكان مشايخه في طليعة من أشعلوا شرارة المقاومة.
ظل الأزهر، طوال فترات الاحتلال البريطاني، منبرًا لصوت الشعب، ومدرسة لرموز التحرر الفكري والسياسي، فأصبح اسمه مرتبطًا ليس فقط بالعلم، بل بالنضال والدفاع عن الهوية المصرية.
الأزهر الشريف.. صدى الشرق في العالم الإسلامي
منذ قرون، لم يكن الأزهر مجرد معهد محلي، بل صار قبلة طلاب العلم من كل أصقاع العالم الإسلامي، من إفريقيا إلى آسيا، ومن المغرب إلى إندونيسيا. كان ولا يزال الجسر الرابط بين الشعوب الإسلامية ولغة العلم والدين.
بهذا الامتداد الثقافي، ساهم الأزهر في تشكيل أجيال من العلماء الذين عادوا إلى أوطانهم محمّلين بالفكر المعتدل والمنهج الأزهري الرصين، ما جعله علامة فارقة في خريطة العالم الإسلامي ككل.
الأزهر في وجه الحداثة وتحديات العصر
رغم قدمه التاريخي، لم يقف الأزهر عند أطلال الماضي، بل سعى في العقود الأخيرة إلى تحديث مناهجه ومؤسساته. فأنشئت جامعة الأزهر، وبدأت الأقسام تتوسع لتشمل العلوم الحديثة بجانب العلوم الشرعية.
ورغم التحديات الفكرية والعلمية، ظل الأزهر متمسكًا بتوازنه، يحاول الحفاظ على التراث دون الانغلاق، والانفتاح دون التفريط، في تجربة فريدة لصياغة خطاب ديني معاصر يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
الأزهر والمرأة.. من الظل إلى المشاركة
مع تطوّر الأزهر عبر الزمن، بدأت المرأة تدخل مجال الدراسة والتدريس داخل أروقته، وأُنشئت كليات للبنات، بل وأصبح لهن حضور فاعل في الحياة العلمية والدعوية.
هذا التغير لم يكن مفاجئًا، بل جاء امتدادًا لطبيعة الفكر الأزهري الذي يُعلي من مكانة المرأة ويمنحها الحق في العلم والعمل، فبات الأزهر بيتًا للجميع، رجالًا ونساءً، دون تمييز.
ألف عام من نور.. الأزهر باقٍ رغم العواصف
رغم كل ما مرّ به من تغيرات سياسية وثقافية، ظل الجامع الأزهر صامدًا، شاهدًا على عصور الازدهار والانكسار، وعلى تحوّلات الفكر والهوية المصرية.
وبينما تغيرت وجوه الحكام، وانقلبت المذاهب والتيارات، بقي الأزهر منارة ثابتة، ينبض بالحكمة ويُضيء طريق الأجيال. ذكرى بنائه ليست مجرد تاريخ، بل لحظة مستمرة تتجدد كل يوم في قلوب الملايين.






