تحقيقات المفتش عمر قضية (صباع المهندس)

حصلت أحداث القضية ديه في صيف 1889، ما كانش لسه عدى وقت طويل على جوازي… وزي ما إنتم عارفين إن أنا دكتور، وفي أوقات كتير أوي كنت بروح لصديقي المفتش عمر في بيته في شارع بغداد… وفي بعض الأوقات كنت بخليه يجي يزورنا أنا وزوجتي في بيتي.
عشت في فترة من حياتي قريب من محطة سكة حديد، وكان بيجيلي بعض المرضى من عمال السكة… واحد من المرضى دول كان حارس في محطة السكة الحديد، وساعدته على إنه يخف من مرضه المزعج… كان على طول يشكر في كفاءتي الطبية، وكمان كان بيقول لمرضى تانيين عليه وعلى مهاراتي.
في يوم من الأيام الساعة 7:00 الصبح، صحتني الخادمة على إن في حد بيخبط على الباب… وقالت إن في إثنين رجاله من محطة السكة الحديد مستنيني في مكتبي، لبست بسرعة وجريت لأن أنا كنت عارف إن حوادث السكة الحديد بتكون صعبة وخطيرة… بمجرد ما قربت من المكتب خرج الحارس اللي كلمتكم عنه وقفل الباب وراه وقال: كان محتاج مساعدة وأنا جبته ليك، أنا لازم أمشي دلوقتي لإن ورايا شغل وخرج بسرعة قبل حتى ما أشكره.
دخلت المكتب لقيت شاب لابس بدلة شيك ولافف حته قماشة على إيده، كان تقريباً عنده 25 سنة، كان وشه باهت، وباين عليه التوتر والقلق.
الشاب: أسف لو كنت صحيتك بدري يا دكتور، أنا حصلت ليه حادثة بالليل، ورجعت في القطر ووصلت النهاردة الصبح… وأول ما وصلت المحطة سألت عمال المحطة علي أقرب دكتور، والحارس الطيب جابني لغاية هنا… أنا أديت البطاقة بتاعتي للخدامة بتاعتك بس واضح ان هي ما اديتهالكش لإنها موجودة على الترابيزة اللي هناك.
مسكت البطاقة وبصيت عليها ولقيت مكتوب أستاذ فريد هلال، مهندس، الدور الرابع، 17 شارع فيروز.
قلت وأنا بقعد على الكرسي: بعتذر لو كنت استنيت مدة طويلة، أكيد الرحلة اللي قضتها بالليل كانت طويلة ومملة.
الشاب فريد: الأحداث اللي حصلت خلال الليل ما ينفعش أبدإ إنها تتصف بإنها طويلة ومملة… وضحك الشاب ضحكة قوية وعالية حتى كإني تخيلت للحظة إنه مجنون.
قلت بشكل جاد: كفاية، حاول تتحكم في نفسك شوية.
ناولته كوباية ميه، بس هو فضل مستمر في الضحك، وآخر ما تعب سكت وقال بصوت واطي: أسف إني ضحكت بالشكل ده.
قدمتله كوباية ميه ومعاها حباية مقوية وقلتله: لأ ما فيش مشكلة ما حصلش حاجة، لو سمحت خد الحباية ديه.
دقايق وبدأ وشه الباهت يرجع للونه وقال فريد: أنا دلوقتي بقيت أحسن، دلوقتي أستأذنك يا دكتور إنك تبص على صباعي أو بمعنى أصح المكان اللي كان فيه صباعي.
شلت حتة القماشة، كان المنظر بشع، أنا كنت دكتور في الجيش، بس خلاص معدتش قادر أستحمل إني أشوف المنظر ده دلوقتي… للأسف الصباع مكنش موجود ومكانه جرح أحمر ووارم.
قلت: يا الله، الجرح صعب جداً، أكيد حصل نزيف شديد.
فريد: أيوه نزف كتير جداً لدرجة إني فقدت وعيي… وممكن كمان اكون فقدت الوعي لمدة طويلة ولما فقت لقيت نفسي لسه بنزف، فربطت إيدي بقطعة قماش وشدتها جامد جداً عشان أوقف النزيف.
قلت: كويس جداً..تفكير صحيح.
قلته وأنا بشوف الجرح: القطع كان بآلة حادة؟
فريد: كان ساطور.
قلت: حد خبطك غصب عنه؟
فريد: للأسف لأ… بقصد.
قلت: ده معناه إن كان في حد عايز يأذيك؟
فريد: أيوه كان عايز ينهي حياتي.
قلت: شيء فظيع.
طهرت الجرح وربطته، كان فريد شاب قوي ما صرخش ولا أصدر أي صوت، إلا إنه كام مرة عض على شفته.
بعد ما خلصت سألته: حاسس بإيه دلوقتي؟
فريد: حاسس إني كويس الحباية، وتنظيف الجرح، وربطه خلاني أحس أني أحسن، كان الوضع صعب جداً، اللي حصل شيء رهيب.
قلت: لو حابب بلاش تتكلم عن الموضوع لو هيضايقك.
فريد: لأ أنا لازم أروح للبوليس وأبلغهم عن كل حاجة، أنا عارف إن حكايتي غريبة… ما عنديش أي إثبات عليها، يمكن ما حدش يصدقني، بس لازم أقدم بلاغ للشرطة.
قلت: يمكن من الأفضل إن إنت تشوف صديقي المفتش عمر قبل ما تروح للشرطة.
فريد: أنا سمعت فعلاً عن أستاذ عمر، وأعتقد إن من الجيد لو سمع قصتي وقال رأيه فيها… وإن كنت برضو هروح للشرطة وأبلغ… هل ممكن لو سمحت تكتبلي رسالة توصية منك أقدمها لأستاذ عمر؟
قلت: لأ أنا هعمل حاجة أحسن من كده، أنا هاجي معاك بنفسي أوصلك.
فريد: متشكر جداً ليك.
قلت: هناخد عربية توصلنا لهناك وهنوصل في ميعاد الفطار، حاسس إنك كويس وتقدر تخرج؟
فريد: مش هحس إني كويس إلا لما أقول حكايتي.
قلت: تمام، هطلب من الخادم إنه يوقف عربية، إستناني هنا دقايق هغير هدومي وهرجع.
طلعت للدور الأول وحكيت لمراتب الموقف، دقايق وكنت أنا وأستاذ فريد في العربية في طريقنا لشارع بغداد.
كالعادة كان المفتش عمر قاعد في أوضة السفرة بيقرأ الجرنان، وبيدخن في البايب بتاعة.
سلم علينا عمر بطريقة لطيفة ومرحبة، وطلب من الخادمة انها تحط أطباق وأكل زيادة.
قعدنا على ترابيزة الفطار وبعد ما خلصنا، طلب عمر من أستاذ فريد إنه يستريح على الكرسي، وقدمله كوباية عصير وخلاها قريبة منه.
عمر: أعتقد إن اللي مريت بيه يا أستاذ فريد كان صعب ورهيب، أرجوك إستريح، تعامل إن إنت في بيتك… إحكيلنا على اللي إنت عايز تقوله، بس لما تحس إنك تعبان وقف الحكاية وأشرب من العصير.
فريد: متشكر ليك يا أستاذ عمر، أنا حاسس إن أنا كويس الدواء والميه وكمان ربطته الجرح مع الفطار الممتاز إداني إحساس إن أنا خفيت.
قعد عمر على الكنبة كالعادة، وبدأ يضيق عينه في محاولة منه للتركيز على كل كلمة بتتقال… قعدت قدامه وبدأنا نسمع لحكاية فريد الغريبة.
بدأ فريد يحكي: أنا أبويا وأمي متوفيين، وأنا مش متجوز، عايش لوحدي، أنا شغال مهندس، أتدربت تحت إيد إثنين من أشهر المهندسين في المدينة
بعد وفاة أبويا ورثت جزء من المال، قررت وقتها إني أعمل شركة خاصة بيه فتحت مكتب هندسة.
الفترة الأولى لإفتتاح المكتب كانت الأمور مش كويسة لدرجة إني بدأت أفقد الأمل، طول سنتين أشتغلت ثلاث أو أربع شغلنات، قدرت إني أجمع منهم 27 جنية.
كنت بقعد كل يوم من الساعة 9:00 الصبح للساعة 4:00 العصر، مستني على مكتبي لدرجة إني يأست، وأعتقدت إن ما فيش أي عمل هقوم بيه.
إمبارح بس دخل عليه السكرتير وقالي إن في شخص عايز يشوفني في شغل، وسلمني السكرتير البطاقة اللي كان مكتوب عليها أستاذ لبيب ثابت.
دخل الشخص لأوضة مكتبي، كان شخص طويل ورفيع جداً، أعتقد إني ما شفتش حد في حياتي أطول من أستاذ لبيب، مناخيره كانت مدبب، بشرته كانت مشدودة، واضح إن الرفع اللي كان فيه ما كانش بسبب مرض أو تعب، ظهره كان مفرود، عينيه نشيطة ولمعه، كان لبسه مهندم ونظيف، أعتقد إنه عنده 35 سنة أو 40 سنة.
أستاذ لبيب: حضرتك أستاذ فريد، في ناس بلغوني عنك إنك مهندس شاطر، وكمان راجل ثقة بيحفظ سر.
إعتقدت من نبرته إنه شخص ألماني، وإتبسطت جداً من المديح اللي قاله وقلت: ويا ترى مين اللي بلغك عني الكلام ده؟
أستاذ لبيب: مش مهم دلوقتي مين اللي قال، أنا عرفت إن أبوك وأمك متوفين، وكمان إنت مش متجوز وعايش لوحدك.
فريد بإستغراب: أيوه فعلاً، بس إيه علاقة ده بإني مهندس شاطر، السكرتير بتاعي بلغني إن إنت عايزني في شغل.
أستاذ لبيب: أيوه فعلاً، كل حاجة أنا قلتها مهمة، أنا عايزك في شغل ضروري… بس هو شديد السرية، وطبعاً إنت عارف إن السرية بتكون أضمن لما يكون شخص وحيد عن إن يكون شخص عايش مع عيلته.
فريد: وأنا أوعدك إني أكتم سرك، وتقدر إنك تثق فيه، وتقولي اللي إنت عايزه.
أستاذ لبيب: توعدني بده؟
فريد: أيوه طبعاً أوعدك.
أستاذ لبيب: توعدني إنك ما تتكلمش أبدا لا قبل المهمة ولا بعدها، ولا إنك تقول الموضوع أبدا لا بالكلام ولا بالكتابة.
قلت: أنا وعدتك بالفعل وإديتك كلمتي.
قام أستاذ لبيب وفتح الباب عشان يتأكد إن ما فيش حد واقف بره، وكانت الطرقة فاضية.
رجع وقعد على الكرسي وقال: دايماً الأشخاص اللي بتشتغل سكرتارية بيكون عندهم فضول عشان يعرفوا أكتر، دلوقتي أقدر أتكلم.
شد الكرسي بتاعه وقرب جداً من الكرسي بتاعي، بدأت أحس إن في حاجة غريبة ومش طبيعية في الراجل ده قلت: لو سمحت قولي اللي إنت عايزني فيه، لأن أنا مشغول، وطبعاً ده ما كانش صحيح.
أستاذ لبيب: إيه رأيك في 50 جنية مقابل شغل لليلة واحدة بس؟
فريد: تمام كويس جداً.
أستاذ لبيب: أنا قلتلك ليلة رغم إن الشغل كله مش هياخد أكتر من ساعة، كل اللي طالبه منك إنك تشوف جهاز مش شغال كويس، وتعرف إيه المشكلة اللي فيه وإحنا هنبقى نصلحه، هتقدر تعمل كده؟
فريد: أيوه أقدر، وقلت في نفسي: عمل بسيط والأجر كبير.
أستاذ لبيب: تمام إحنا عايزينك تيجي النهاردة بالليل في آخر قطر.
فريد: أجي فين؟
أستاذ لبيب: قرية صغيرة بعد المدينة بحوالي سبع أميال، في قطر هيخرج من المحطة وعلى الساعة 11:15 تكون وصلت.
فريد: كويس جداً.
أستاذ لبيب: هاجي أستقبلك في محطة القطر.
فريد: هل المكان بعيد عن المحطة؟
أستاذ لبيب: أيوه البيت بتاعنا بعد القرية بحوالي سبع أميال.
فريد: ده معناه إن إحنا مش هنوصل لبيتك قبل نص الليل، وكده مش هيكون فيه أي قطار هيرجع في الوقت ده، كده معناه إني هبات عندك.
أستاذ لبيب: أيوه فعلاً… ما فيش أي مشكلة إني أقدملك غرفة وسرير.
فريد: بس كده الموضوع صعب، ما ينفعش إني أجي في وقت تاني؟
أستاذ لبيب: إحنا شايفين إن النهاردة هو أحسن وقت، وأعتقد إن المبلغ اللي إنت هتاخده هيكون كفيل يقضي علي التعب اللي هتقابله، وبعدين تقدر إنك ترفض الوظيفة لو حابب.
فكرت للحظات في ال 50 جنية، وقد إيه هي فلوس سهلة على عمل بسيط فقلت: لأ تمام أنا موافق، بس محتاج أفهم إيه اللي إنت طالبه مني بالضبط.
أستاذ لبيب: هقولك على كل حاجة، زي ما قلتلك الموضوع في غاية السرية، إنت متأكد إن ما فيش حد سامعنا؟
فريد: أيوه متأكد أتفضل قول.
أستاذ لبيب: من سنتين تقريباً أشتريت بيت وكان حواليه حتة أرض صغيرة، ولقيت بعد كده إن الأرض فيها تراب فولر… إنت عارف إن التراب ده قيم، وفي المدينة كلها ما فيش غير مكان أو مكانين اللي موجود فيهم… بس للأسف كمية تراب فولر اللي كانت موجودة في الأرض بتاعتي كانت قليلة… بس فوجئت إنه موجود بكمية كبيرة في الأراضي اللي جنبي من ناحية اليمين ومن ناحية الشمال.
أصحاب الأراضي ديه ما كانوش يعرفوا أن أرضهم فيها تراب فولر، كانت أفضل فكرة إني أشتري الأراضي اللي جنبي قبل ما أصحابها يعرفوا حقيقتها… بس للأسف ما كانش معايه فلوس كفاية، قلت لبعض أصدقائي المقربين عن السر ده، وهما نصحوني إن أنا أخرج الكمية القليلة من تراب فولر اللي موجود في أرضي وأبيعها.
بالتالي يكون معايا الفلوس اللي أقدر أشتري بيها الأراضي اللي جنبي.
قعدنا فترة نشتغل بالطريقة ديه، بس واحد من الأجهزة اللي بنستخدمها وهي المكبس، للأسف مش شغال بشكل كويس، وكل اللي عايزينه منك إنك تبص عليه وتقولنا رأيك.
إحنا مش عايزين أي حد يعرف الموضوع ده، لان لو حد من الجيران عرف إنك مهندس وجيت زرتنا، ممكن يعرفوا سر تراب فولر… وطبعاً هتفشل خطتنا في إن إحنا نشتري الأراضي اللي جنبنا، عشان كده أنا طلبت منك توعدني إنك ما تقولش لأي حد إنك هتيجي تزورنا النهاردة.
فريد: بس في حاجة مش فاهمها، إزاي جهاز المكبس مفيد في إنك تستخرج تراب فولر من الأرض؟
أستاذ لبيب بلا مبالاة: ده شغلنا إحنا.. إحنا بنستخدم جهاز المكبس عشان يحول تراب فولر لطوب، وساعتها نقدر إن إحنا ننقله من غير ما حد يشك في أي حاجة.
وقف أستاذ لبيب وهو بيتكلم: هستناك في محطة القطر الساعة 11:15.
فريد: هكون موجود هناك.
أستاذ لبيب وهو بيضغط على إيدي وبيسلم عليه قبل ما يمشي من المكتب: ما تقولش لحد أي حاجة.
دلوقتي يا دكتور أحمد وحضرتك يا أستاذ عمر، بعد ما مشي أستاذ لبيب بدأت أفكر قد إيه هو شخص مش طبيعي، كمان الوظيفة اللي هو طالبها مني غريبة… بس الفلوس اللي هيدفعها كانت كبيرة جداً قصاد العمل، ويمكن الشغل ده يجر وراه شغل تاني.
بس كان في جوايا إحساس غريب حوالين الشخص ده، طبعاً أنا ما كنتش مصدق قصة تراب فولر اللي هو قالها وإيه علاقته بإن لازم أعمل الوظيفة ديه بعد نص الليل… أو سبب تأكيده عليه إن ما حدش يعرف أي حاجة عن الموضوع وأنه أمر بالغ السرية… بس أنا ما أعطتش أي إهتمام لأفكاري ديه، وروحت البيت وإتعشيت… بعد كده لبست هدومي وركبت عربية توديني لمحطه القطر.
نفذت اللي طلبه مني أستاذ لبيب ما قلتش لأي حد عن المشوار اللي أنا رايحه، ركبت القطر، وكان المفروض في نص الطريق إني أغير المحطة وأركب قطر تاني… بعد شوية وصلت لمحطة القطر.
كانت المحطة ضلمة وصغيرة وصلت حوالي بعد الساعة 11:00 بالليل، كنت الشخص الوحيد اللي موجود في المحطة، بخلاف موظف السكة الحديد النعسان اللي كان ماسك في إيده كشاف.
أول ما خرجت من المحطة لقيت أستاذ لبيب واقف من بعيد الناحية التانية من الطريق… أول ما شافني قرب من غير أي كلمة، مسك إيدي ودخلني جوه عربية… رفع الشبابيك الخشب لفوق، وطلب من السواق إنه يتحرك… أتحرك الحصان وجر العربية بأقصى سرعة.
عمر: كان بيجر العربية ديه حصان واحد؟
فريد: أيوه حصان واحد بس.
عمر: هل قدرت إنك تشوف لون الحصان كان إيه؟
فريد: أيوه قدرت أشوفه في النور بتاع العربية وأنا بركبها، كان لونه بني فاتح.
عمر: هل كان الحصان متعب ولا نشيط؟
عمر: لأ أعتقد إن هو كان باين عليه النشاط وإن ما كانش فيه أي إجهاد أو تعب ظاهر عليه.
عمر: تمام.. إتفضل كمل.
ورجعت أسمع أنا وصديقي عمر بقيت قصة فريد الغريبة والمشوقة.
لتكملة القصة اضغط الزر بالاسفل