قصص درامية

أرض الذكاء (الجزء الرابع)

خالد دخل في حالة من الإنكار وضربات قلبه تسارعت بقوة، وكان حاسس باختناق شديد حوالين رقبته، وفضل يتمنى إن كل ده يطلع كابوس، ويخرج منه.

أما بالنسبة لأسيل، فأول ما شافت السهم وهو في رجل التمثال اليمين جريت على غرفتها وهي بتعيط.

لدرجة إن الحاكم وزوجته ما صدقوش إللي هما شافوه، واستغربوا من رد فعل أسيل الغريب.

أسيل بعد ما دخلت أوضتها، وإترمت على السرير وهي غرقانة في الدموع: فقط لو وضعت كل دروعك عند ساق التمثال اليمنى لنجوت.

وبعد كده فضلت تضرب نفسها على دماغها، وتقول: ماذا علي أن أفعل؟! هل حقا خالد هو من سيتم ذبحه في الغد؟!!

أسيل فضلت تلوم نفسها، والدموع عمالة تنزل على خدودها بغزارة، وعقلها مش راضي يبطل تفكير في خالد.

أسيل في نفسها: هذا كله بسببي.

أنا التي أثرت على تفكيره حينما حللت له اللغز.

أنا من أخبرته عن مكان الرأس التي يبحث عنها.

أنا لم أمنعه حينما كان ينفق وحدات ذكائه ببذخ.

كان عليّ الاعتراض حينما قام بصرف كل وحداته دفعة واحدة.

كان يمكنني أن أمنعه.

ماذا علي أن أفعل؟! ماذا علي أن أفعل؟!

حبيبي سيذبح غدا.

في مكان آخر…

خالد كان قاعد في العربية، وهو متكتف بالكلبشات في إيديه ورجليه.

وبص على الطريق الممهد للمنطقة الشرقية، ولقى إن الطريق بقى مزدحم بالناس، وجميع أهالي الذكاء متكدسين في المنطقة دى.

خالد كان قاعد في العربية وسط الزحام ده كله، وكان قدامه قائد الحراس.

قائد الحراس بعد ما بص لخالد إللي كان باصص من شباك العربية على الشارع: ستبيت الليلة في بيت فقير الذكاء.

خالد ما ردش عليه وفضل ساكت.

قائد الحراس: عليك الاستعداد ليوم غد، وكن سعيدا لأنك ستموت فداءً لمولود الحاكم.

عليك أن تكون سعيدا لأنك ستجلب السعادة لآلاف الأشخاص في الذكاء.

وبعد كده شاور على الناس إللي ماشيين في الشارع، وقال: ستجلب السعادة لكل هؤلاء، وعليك أن تعلم أن هناك العديد من أهل الذكاء لم يحضروا منافسة الالذكاء.

وهذا بسبب أنهم خرجوا مباشرة بعد فتح باب الذكاء.

ولكن هذا لن يدوم طويلا لأن باب الذكاء سيغلق مع شروق شمس غدًا، وسترى احتفالات كبيرة بيوم عيدنا،وكل هذا سيحدث من أجلك.

خالد بنبرة عالية وغاضبة: ممكن تسكت شوية! إسكت.

قائد الحراس إستغرب من رد فعل خالد، واتعصب جدا عليه، وعقد حواجبه.

خالد رجع تاني يبص من شباك العربية، وفضل على هذا الحال لحد ما وصلت العربية لأطراف المنطقة الشرقية مع غروب الشمس.

العربية عدت قدام البحيرة إللي خالد كان دايمًا بيقعد جنبها، ولما عدّى إفتكر الذكريات، وحس بالحنين.

فضلوا ماشيين لحد ما وصلت العربية قدام بيت قدامه ناس كتير عمالين يرقصوا، ويغنوا.

قائد الحراس بنبرة غليظة: هيا أيها الفقير، لقد وصلنا إلى البيت الذي ستبيت فيه.

في قصر الحاكم…

أسيل كانت لسه قاعدة في الأوضة بتاعتها عمالة تعيط، وهي قاعدة على الأرض وساندة ظهرها على الحيطة، وماسكة في إيديها الورق بتاع خالد.

أسيل قامت من مكانها فجأة، وراحت جابت ورقة وقلم، ونورت شمعة جنب المكتب بتاعها.

أسيل كتبت في أول الصفحة: سيموت حبيبي غدا، وأنا سأحتفل بموته.

أسيل إيديها وقفت عن الكتابة فجأة، وبصت للكلام إللي كتبته وهي متعصبة، ومسكت الورقة بسرعة وفضلت تقطع فيها.

وبعد كده قامت تلف في أنحاء الأوضة، وهي متوترة، وعلى وشها ملامح غضب شديد.

بعد كده خرجت في البلكونة بتاعتها، ملاحظة إن الدنيا ضلمت، والألعاب النارية ظهرت بمظهرها الجميل في السماء.

أسيل وقفت تتفرج على الألعاب النارية إللي بتنور السما، وأثناء ما كانت واقفة سمعت الخادمة بتاعتها بتنده، وبتقول: سيدتي، يسألك الحاكم إذا كنتى تودين الذهاب معه في موكب الغد الذي سيذهب للمنطقة الشرقية.

أسيل ما ردتش عليها، والخادمة إستغربت ومشيت من غير ما تخش الأوضة، وأسيل أول ما سمعت الكلام ده راحت ماسكة أوراق خالد وحطتها في شنطة، وجهزت نفسها علشان تمشي من الأوضة.

في بيت الفقير…

خالد تم سجنه في غرفة من غرف بيت الفقير إللي موجود في المنطقة الشرقية.

خالد فضل قاعد في الأوضة المظلمة دي وهو نايم على جنبه، ومش قادر يفكر في أي حلول.

وأثناء ما كان قاعد في الأوضة كان سامع صوت الألعاب النارية، واحتفالات الأهالي، بس ذهنه ما كانش بيفكر في أي حاجة غير المشهد بتاع الذبيح إللي شافه أول ما دخل الذكاء.

وعمال يتخيل نفسه وهو رأسه بتطير زي الذبيح الأول.

خالد كان متوتر، وما كانش عارف يتمنى الوقت يعدي بسرعة، ولا يعدي بالراحة يمكن يلاقي أمل في المحنة إللي هو فيها ويقدر يخرج من العذاب ده.

خالد فضل على الحال ده لحد ما دخل عليه واحد من الجنود ومعاه رجل قصير القامة، وأصلع، ولحيته طويلة.

الجندي: هيا أيها الفقير، انهض لكي تحلق رأسك.

خالد بدهشة: أحلق شعري؟!! 

الجندي: أجل، طالما أنت من سيكون الذبيح، فعليك أن تكون حليق الرأس.

خالد ما ردش على الجندي، والجندي بص للراجل إللي هيحلق لخالد، وقال: وأنت قم بتجهيز أدواتك لكي تنجز عملك.

الحلاق راح واقف جنب خالد إللي كان ظاهر عليه اليأس والاستسلام، وطلب منه يقعد علشان يعرف يحلق شعره.

خالد قعد، والحلاق وقف خلفه، وفتح شنطته وطلع منها مادة لزجة بدأ يمشيها على شعر خالد، ودلك شعره بيها لحد ما المادة كلها تخللت داخل شعره.

وبعد كده راح جاب شوية تانيين وحطهم على ذقن خالد، وفرك المادة الغريبة فيها.

الحلاق بعد ما خلص فرك المادة الغريبة في شعر خالد فتح شنطته وطلع منها آلة حادة تشبه السكين، بس أرفع من السكين بحاجة بسيطة، وبدأ يمشي السكين دي على فروة رأس خالد.

خصلات شعر خالد بدأت تتساقط جنبه وخالد ما نطقش ولا حرف، وظاهر على وشه ملامح اليأس والاستسلام.

الحلاق لاحظ حزن خالد الشديد، وكان كل ما يجي يفتح موضوع مع خالد أو يسأله سؤال خالد ما كانش بيرد عليه.

بعد مدة قليلة الحلاق خلص وبص لخالد بابتسامة، وقال: لقد إنتهينا أيها الفقير.

وبعد كده طلع شيء لامع يشبه المرايا، وقال: إنظر إلى نفسك.

خالد بص على نفسه ولقى منظره غريب جدًا لما حلق شعر راسه كله، وكان شبه الناس القُرع.

خالد ما اهتمش بمنظره وساب الحلاق، وراح في ركن من أركان الأوضة، ورجع تاني نام على جنبه وهو ساكت.

الوقت عدى بسرعة، والفجر قرب يطلع، وجميع الموجودين في قصر الحاكم اندهشوا لما لقوا الدكتورة أسيل اختفت، وما حدش كان يعرف مكانها، وكانوا مستغربين طالما مشيت ليه سابت الحاجة بتاعتها في غرفتها.

بس ما كانوش يعرفوا إنها خلاص وصلت للمنطقة الشرقية، وكانت متجهة لبيت الفقير.

أسيل وصلت بيت الفقير، ولما جت علشان تدخل وقفها واحد من الحراس وسألها: ماذا تفعلين هنا؟

أسيل بابتسامة: أنا طبيبة الذكاء، وجئت لكي أرى الفقير.

الجندي بعد سكوت قليل: لا يسمح بدخولك يا سيدتي، لكن يمكنك الدخول والخروج بسرعة.

الحارس فتح باب الغرفة، وأسيل أول ما دخلت لمحت خالد وهو نايم في أحد أركان الغرفة على جنبه، وكان حالق شعر رأسه.

أسيل حاولت تتمالك نفسها وتمسك دموعها، وقعدت هي كمان في ركن من أركان الغرفة من غير ما تتكلم.

عدى وقت وأسيل كانت باصة لخالد من غير ما تتكلم، وخالد كان باصصلها هو كمان من غير ما ينطق ولا حرف.

أسيل بعد صمت طويل: خالد… كيف حالك؟

خالد ما ردش عليها وفضل ساكت، وأسيل كملت بصوت هادي: لقد كنت أحذرك دوما من فقدان ذكائك ولكنك لم تستمع لي.

قمت بإنقاذ طفل صغير عند البحيرة، ولم تأخذ مقابل على ذلك.

وأنقذت فتى صغير من الموت، ولم تأخذ أيضًا مقابل على ذلك.

أعلم أنك لم تأخذ مقابل من أحد لأنك تحب فعل الخير.

وبعد كده صوتها علي وهي بتعيط: أخبرتك من قبل أن أهل الذكاء لا يفعلون شيئًا بدون مقابل.

وبعد كده سكتت شوية وهي عمالة تعيط: أعلم أنك غاضب مني جدًا، وأعلم أيضًا أنك تحب فعل الخير.

لكني أريدك فقط أن تسأل نفسك: هل كنت فعلًا ستقبل بالظلم لو كنت مكاني؟

هل ستظلم أحدهم، وتضحي بحياتك من أجل من تحب؟

خالد ما ردش عليها وفضل ساكت وأسيل إتعصبت، وقالت وهي بتعيط: لماذا لا ترد؟!!

أسيل قامت من ركن الأوضة إللي كانت قاعدة فيه وراحت وقفت قدام خالد، وقالت: أنا أعلم بمقدار حبك لي يا خالد، ولكن صدقني لو وضعت أضعافًا فوق حبك فلن يكفي مقدار حبي لك.

خالد قام من نومته، وقعد مكانه وهو باصص لأسيل.

أسيل بنبرة حزينة: صدقني لن أتركك لتموت في هذا المكان.

خالد بضعف وحزن: يا ترى بقى هتعملي إيه؟

هتتبرعيلي بنسبة من ذكائك؟! ولو هتعملي كده، هتاخدي إيه في المقابل؟

أيوه طبعًا لازم تاخدي مقابل علشان هنا في الذكاء ما حدش بيعمل حاجة بالمجان.

بس لو عايزة مني مقابل صدقيني أنا معيش أي حاجة أديها لك.

وبعد كده ضحك بسخرية، وقال: روحي يا أسيل احتفلي مع الناس إللي بره.

روحي هما مستنيينك علشان ترميلهم الورود بكره في الاحتفال.

مستنيين يشوفوا إبتسامتك الساحرة ليهم.

وأثناء ما كانوا بيتكلموا قاطعهم الجندي بعد ما دخل، وقال: عليكِ الذهاب الآن يا سيدتي.

أسيل بصت لخالد بأسف، واتجهت ناحية باب الغرفة وخلاص كانت خارجة والحارس هيقفل الباب، بس أسيل رجعت بسرعة، وقعدت قدام خالد، وحطت إيديها على خده، وقالت: خالد… قبلني.

خالد بتعجب من طلبها: إيه؟!!

أسيل بنبرة جادة: قبلني الآن يا خالد.

خالد ما ردش عليها وفضل متنح ومش مصدق إللي سامعه.

أسيل بعد ما الدموع نزلت من عينيها بغزارة: أرجوك قبلني فحسب.

إن كنت تحبني حقًا فقم بتقبيلي الآن.

خالد برضه ما ردش عليها، وما كانش عارف إيه إللي المفروض يتعمل في الوقت ده.

أسيل إبتسمت والدموع بتنزل من عينيها، وقالت: حسنًا إن كنت لن تقبلني فسأقبلك أنا.

خالد ما كانش مصدق ولا كلمة من إللي أسيل قالتها، لحد ما اتفاجئ بشفايفها بتلمس شفايفه.

الجندي إللي كان واقف على الباب إتصدم من إللي أسيل عملته، وفضل يتفرج عليهم وهو مبتسم، وكان بيتمنى إنه يبقى مكان الفقير علشان الطبيبة أسيل أجمل واحدة في الذكاء تبوسه.

أسيل كانت بتبوس خالد وكأنها مش مهتمة بأي عواقب، ولا مهتمة بأي حد حواليها.

أسيل خلصت وبعد كده بصت لخالد، وخرجت على طول من الغرفة.

بعد ساعات قليلة الشمس أشرقت، وباب الذكاء قُفل، ورجع الناس للاحتفال مرة تانية، ودق الطبول، وتعالت أصوات الموسيقى.

قائد الحراس دخل على خالد الغرفة، وقال: هيا تحرك… سيبدأ الاحتفال بعد قليل.

قائد الحراس أمر الجنود بتوعه إنهم يجيبوا خالد، ويركبوه العربية الخاصة بفقير الذكاء.

وفعلًا خالد نزل مع الجنود وهو متكلبش في الحديد، وركب عربية متغطية بقطعة قماش سوداء، وفيها فتحة صغيرة بيشوف الناس منها لكن الناس ما بيشوفوهوش.

العربية اتحركت ناحية منصة الذكاء، وأثناء ما العربية ماشية كان حواليها كم هائل من الناس ماشيين بانتظام، ولابسين هدوم جديدة، وكل واحد ماسك في إيده وردة.

كل الناس كانت ماشية مبسوطة، وحاطين حوالين رقبتهم عقد ورد، وعمالين يرقصوا ويغنوا أثناء مشيهم.

خالد بص من العربية وهو حزين، ولقى الناس وهم مبسوطين، وفي منهم إللي راكب أحصنة وكل واحد راكب وراه واحدة بتلف إيديها حوالين وسطه.

خالد كان عمال يبص من العربية على الناس وهم بيرقصوا، ويغنوا، وبيبص على الشباب إللي عمالين يعملوا حركات بهلوانية، وكان حزين جدًا لأن كل الاحتفالات دي علشان هو هيتذبح.

خالد قال بسخرية في نفسه: كنت بحتفل من كام شهر معاهم بفقير هيتذبح.

دلوقتي أنا مكان الفقير ده، ومافيش ولا واحد فيهم حاسس باللي أنا حاسس بيه.

العربية بتمشي وسط الزحام وخالد قلبه بيدق بقوة، وكان بيحس بحزن شديد لما العيال الصغيرين يجروا ورا العربية بتاعته، ويشاوروا عليها، ويقولوا: ها هي عربة الذبيح.

وبعد كده عيل صغير صرخ بصوت عالي، وقال بعد ما شاور على عربية فخمة: إنظروا إنها عربة الطبيبة أسيل.

هيا لنلتقط الورود ونرى ضحكتها.

خالد كان باصص على العربية بحزن، وكان مستني أسيل تطلع منها وهي ماسكة الورد، بس المفاجأة إن مش أسيل هي إللي خرجت من العربية، وفي واحدة تانية خرجت منها وهي ماسكة الورود.

لدرجة إن كل الموجودين في أرض الذبح إندهشوا.

الموكب كمل مسيره، وكان في آلاف من الناس واقفين أمام منصة الذبح، ومستنيين وصول الحاكم علشان يبدأوا الاحتفال.

خالد كان قاعد في العربية وعارف إن مجرد لحظات قليلة، وحياته هتنتهي.

الناس كانت عمالة ترقص، والولاد بيتغزلوا في البنات، وكله ظاهر عليه السعادة والفرح، والازدحام كان شديد جدًا.

وسط الزحام ده كله يامن كان عمال يتحرك بصعوبة، وكان ظاهر عليه التعب الشديد، وعلى عكس الناس كلها يامن كان لابس لبس رديء، ومتبهدل، وملامح وشه كانت حزينة جدًا.

يامن كان بيعافر علشان يوصل للصفوف الأمامية، وأثناء ما كان ماشي سألته بنت: لماذا لا ترقص معنا؟!

يامن ما ردش عليها وكمل مشي ناحية الصفوف الأولى.

بعد وقت قليل صوت الطبول علي أكتر، ووصل معاها الحاكم هو وزوجته والمساعدين بتوعه، وكان في مكان مخصص ليهم الحاكم راح قعد فيه، والحفل كان منظم بطريقة جميلة جدًا.

في وسط هذا الجمع والأصوات العالية طلع راجل ضخم على منصة الذبح، وكان ماسك في إيده سيف طويل.

الراجل وقف على المنصة، وبص ناحية الحاكم، وانحنى باحترام.

الطبول عليت أكتر والموسيقى سكتت، وبعدها طلع جنديين باين عليهم القوة والبأس، وكانوا بيجروا خالد إللي حلق شعره، ومتكلبش بالحديد من إيديه ورجليه.

الطبول دقت مرة ثانية، ونزل ساعتها أهل المدينة كلهم على ركبتهم، وكمان خالد تم إجباره إنه ينزل على ركبته، والناس كلهم باصين عليه، ومن ضمنهم يامن إللي فضل إنه يقفل عينيه علشان ما يشوفش المنظر البشع ده.

السياف بص ناحية الحاكم مرة ثانية، والحاكم شاورله، وأمره يكمل إللي هو بيعمله.

السياف لف وشه ناحية خالد، وخالد خلاص كان فقد الأمل وغمض عينيه بعد ما أنزل راسه، والسياف رفع سيفه علشان ينزل على رقبة خالد.

لحد ما كسر الصمت صوت طفل صغير بيقول: إنه غني… إنه غني.

خالد، وكل الموجودين بصوا ناحية الطفل إللي كان بيصرخ، ولما خالد دقق في ملامحه لاحظ إنه الطفل إللي أنقذه من الغرق.

الطفل بصوت عالي: إنه ليس فقيرًا لماذا تذبحونه.

وبعد كده صرخ راجل ثاني بصوت عالي، وقال: أجل إنه غني.

يامن فتح عينيه بعد ما سمع أصوات الناس دي، وبص على خالد، ولقى وشه رجع للنضارة بتاعته.

يامن بصوت عالي هو كمان: أجل إنه ليس فقيرًا.

خالد بص على دراعه وهو مندهش من كلام الناس، وتفاجئ فعلًا إن دراعه ما فيهوش أي صفار، ورجع للون الطبيعي بتاعه.

وبعد كده بص، ولقى الطفل الصغير بيجري على المنصة وطلع واقف جنبه، ونزل على ركبتيه، وبص للحاكم بنظرة قوية، وقال بصوت عالي: انظروا إليه جيدًا..

إنه لا يستحق أن يُذبح لأنه ليس فقيرًا.

وطالما إنكم ستذبحونه وهو ليس فقيرًا، فاذبحوني معه لأنني أيضًا لست فقيرًا.

خالد اتفاجئ من إللي الطفل بيعمله، واتفاجئ مفاجأة أكبر لما شاف أم الطفل إللي أنقذه من ضربة الشمس طالعة على المنصة وهي بتجري، وبتقعد على ركبتها، وبتصرخ بصوت عالي هي كمان: أجل إنه غني، وقد أنقذ هذا الشاب طفلي من الموت، ولهذا لن أترككم تقتلونه ظلمًا.

وإن كنتم مصريين على قتله وهو ليس فقيرًا، فاذبحوني أنا وطفلي معه.

وبعد كده صرخت بنت تانية من الحضور، وقالت: أجل إنه ليس فقيرًا.

أنا أعرفه جيدًا، إنظروا إلى جلده وسترون بأعينكم أن هذا رجل غني.

خالد بص على البنت إللي كانت بتدافع عنه، ولقى إنها فتاة الليل من المنطقة الشمالية.

يامن بصراخ: أجل كيف تفعلون ذلك؟!

منذ متى وأنتم تذبحون الأغنياء؟!

وفجأة ظهر مجموعة رجال أقوياء بيصرخوا بصوت عالي ويقولوا: أجل إنه ليس فقيرًا… إنه ليس فقيرًا.

والمجموعة دي كانت من الرجال إللي كانوا بيكسروا الصخور مع خالد في المنطقة الشرقية.

الأصوات عليت في الساحة، والناس كلها فضلت تصرخ، وفي عدد كبير من الناس طلع جنب خالد، وطلبوا إنهم يتذبحوا طالما خالد هيتذبح ظلم.

السياف كان متابع المشهد ده ومش عارف يعمل إيه، وبص على الحاكم كأنه بيقوله: إيه العمل؟

الحاكم قام وقف من على الكرسى بتاعه، وسأل واحد من الجنود: أين الطبيبة أسيل؟

الجندي: نحن لا نعلم مكانها.. لقد اختفت منذ الأمس، وليس لها وجود.

الحاكم بصراخ: أحضروا لي طبيب هذه المنطقة حالًا.

واحد من الأشخاص إتقدم، ووقف قدام الحاكم، وإنحناله، وقال: أنا طبيب هذه المنطقة يا سيدي، وأنا في الرتبة الثانية بعد الطبيبة أسيل.

الحاكم: أريد أن أعرف كم وحدة من الذكاء يمتلك هذا الشاب.

الطبيب بعد ما بص لخالد: حسنًا يا سيدي.

الطبيب إتجه ناحية خالد، وطلع على المنصة، والكل كان ساكت وعايزين يعرفوا مصير خالد، وخالد كان قلبه بيدق بسرعة، وخايف لحسن يكون الأمل ده مجرد وهم.

الطبيب بدأ يحط إيده على دماغ خالد، وبدأ يتحسس جلده، وفضل باصصله شوية كتير.

وبعد كده رجع للحاكم، وقال: إنه ليس فقيرًا يا سيدي، ويمتلك عدد كبير من الوحدات تجعله ثريًا جدًا.

الحاكم باستغراب: كيف يمتلك عدد كبير من وحدات الذكاء، وهو لم يستطع أن ينجو من الالذكاء؟!

الطبيب بابتسامة: إن الالذكاء يا سيدي ليست تجسيدًا للقدر، وقد لا ينجو منها الكثير منا.

الحاكم سكت شوية، وبعد كده بص للطبيب، وقال: إذًا كيف اختارته الطبيبة أسيل من ضمن الثلاثة الأكثر فقرًا في الذكاء طالما يمتلك هذا العدد الهائل من الوحدات؟!!

كيف لها أن تقبل أن يكون الاحتفال بولدي بظلم أحدهم؟!!

إنها بفعلتها هذه ستكون خائنة لالذكاء.

وبعد كده بص لواحد من مساعديه وقال: هذه الفتاة لم تعد طبيبة الذكاء الأولى بعد الآن.

بل لن تصبح طبيبة، ولن يكون لها مكان بيننا.

إننا لا نقبل بالخيانة أبدًا.

وبعد كده بص لخالد إللي كان مستني رد فعل الحاكم، وما كانش مهتم بالكلام إللي بيقوله نهائي: إرجع إلى بيتك يا بني.

لقد عفونا عنك… إننا لا نقبل بالظلم في ذكرى ميلاد ولدى، وبالتأكيد سيكون ولدي أكثر فرحًا إذا احتفلت معنا اليوم.

وبعد كده أمر قائد الحراس إنه يطلق سراحه، وفي اللحظة دي صرخ الجميع بتهليل، ويامن طلع يجري على المنصة، وحضن خالد حضن قوي، والدموع بتنزل من عينيه.

يامن: لقد عدت إلينا يا صديقي، ونجوت من هذه المحنة.

كنت أعلم أنك ستنجو.

خالد حضن يامن وهو فرحان، وبعد كده بص على الطفل إللي كان جنبه في المنصة، والطفل بص لخالد وهو مبتسم، وحضنه.

خالد بفرحة، والدموع بتنزل من عينيه: لقد أنقذت حياتي أيها الصغير. 

الطفل بابتسامة: إنه دين يا صديقي، فلقد أنقذت حياتي أولًا.

الاحتفالات رجعت تاني، والموسيقى إشتغلت بصوت عالي، والمرة دي الأجواء كانت مبهجة أكثر، والبنات بدأت ترقص، وناس كتير من أهل الذكاء راحوا لخالد علشان يسلموا عليه.

خالد مشي بينهم، وعينيه عمالة تتقلب في كل مكان، وبيتحرك في الزحام بصعوبة.

خالد كان بيدور على شخص واحد، ونفسه يشوف الشخص ده، وهي أسيل.

عمال يمشي في كل الأماكن، بيتمنى إنه يلاقيها، وكل شخص يقابله يسأله على مكان أسيل، بس ما كانش فيه أي حد عارف.

خالد فضل يدور بين البنات إللي موجودة في الاحتفال، وكل ما يشوف بنت من الخلف يلفها علشان يشوف وشها، بس برضه ولا واحدة فيهم طلعت أسيل.

خالد كان حاسس بيأس شديد، وطلع من وسط الاحتفال، وراح قعد في أحد جوانب الشارع إللي كانت فاضية، وكان حزين جدًا، ويامن كمان ضاع منه في وسط الزحام.

خالد فضل يبص على جسمه، ومش فاهم إزاي بقى سليم وهو معاه عدد قليل من وحدات الذكاء، وعمال يستجمع ذكرياته، بس ما كانش فاكر أي حاجة لأنه كان شبه فاقد للوعي في الأيام إللي فاتت.

خالد كان عمال يتساءل عن مكان أسيل، ومستغرب ليه ما احتفلتش مع بقية أهل الذكاء كعادتها.

وأثناء ما كان قاعد إتفاجئ ببنت صغيرة داخلة عليه، وبتقول: عليك الذهاب إلى البحيرة الآن يا سيدي.

خالد بابتسامة بعد ما حط إيده على راسها بلطف: ولماذا أذهب إلى البحيرة يا عزيزتي؟

الطفلة بابتسامة: لأن هناك طبيبة أخبرتني أن أبلغ من ينجو من الذبح بهذا الخبر.

خالد ما كانش مصدق إللي بيسمعه، وعينيه وسعت جدًا من كتر الصدمة.

خالد بتعجب: الطبيبة أسيل؟!!!

خالد ساب البنت الصغيرة، وجري زي العيل الصغير إللي كان تايه من أمه، واتجه ناحية البحيرة.

وأثناء ما كان بيجري، كان عمال يخبط في الناس، وكل حد كان بيخبط فيه كان بيعتذرله، وبعد كده يكمل جري وهو مبسوط وفرحان، والابتسامة مرسومة على وشه.

خالد وصل لشاطئ البحيرة، وفضل يدور على أسيل في كل مكان، ويصرخ بصوت عالي وينادي باسمها لكن للأسف ما لقاش أي رد.

لحد ما حس بيأس، وراح قاعد جنب الشجرة إللي بيقعد جنبها على طول، وفضل حزين لحد ما سمع صوت ورقة بتطاير.

بص جنبه، ولقى ورقة متعلقة في الشجرة.

خالد فتح الورقة، ولقى إنها رسالة من أسيل، وكان مكتوب فيها:

لا أعلم كيف أبدأ حديثي..

أتمنى أن تجد تلك الرسالة يا خالد وتقرأها.

أعلم أنني لست ماهرة في الكتابة مثلك، ولكنني أريد فقط أن أُعبّر عما يدور بذهني، وأريد أن أخبرك أني أحببتك أكثر من أي شيء.

أحببتك منذ المرة التي رأيتك فيها وأنت تنقذ الطفل بدون مقابل.

لقد جعلتني أشعر بالأنانية حينما رأيتك تريد المغادرة وأنا لم أكن أريدك أن تغادر.

لقد أظهرت لك أني أريد مساعدتك، ولكني تمنيت في كل لحظة ألا تستطيع الخروج من هنا.

لم أتخيل أني يمكن أن أتركك ذبيح الذكاء، وأحتفل بموتك.

لذلك أريدك بعد أن تقرأ رسالتي أن تخبر الناس بأن لديك أغلى كتاب في الذكاء، ولديك أيضًا أغلى قبلة في التاريخ.

أتتذكر حينما أخبرتني أنك لا تمتلك أي شيء لكي تحصل على الذكاء مني؟

لكني رأيت فيك أشياء أغلى بكثير من وحدات الذكاء يا خالد، وتلك القبلة كانت كافية لكي أدفع لك مقابلها أغلى الأثمان.

لقد أردتك أن تنجو، وترجع إلى الفتاة التي أحببتها في بلادك.

أنا أعلم أنك تحبها، وأيضًا هي لن تجد شخصًا مثلك لكي تحبه.

كل ما أريده فقط أن تعيش أنت، وهي حياة سعيدة في عالمكم الجميل.

أعلم أنك لن تستطيع العيش في هذا العالم بعد الآن، وأعلم أنني لن أستطيع العيش في عالمك.

لذلك عُد إليها، وكل ما أريده منك هو أن تتذكرني من حين لآخر.

وإذا كنت في عالمك ووجدت النجم المميز في السماء، فاعلم أنني أنظر إليه، وصدقني كلما أنظر إلى هذا النجم سوف أتمنى لك السعادة، وأظن أني سأتمناها لك كل يوم لأنني لن أنام قبل أن أنظر إلى السماء كل يوم وأرى هذا النجم.

لقد أخبرتك من قبل أنني لن أترك الذكاء إلا إذا كان هناك سبب قوي جدًا، وأظن أنني لن أجد سببًا أقوى من إبقائك على قيد الحياة.

أريدك أيضًا أن تخبر يامن حينما تراه أنني أعلم جيدًا أن من يحب سيفعل أي شيء من أجل حبيبه.

لقد قررت العودة إلى بلادي بيجانا، وسأعيش هناك بقية حياتي، وسأعمل كطبيبة مثلما كنت هنا، وأظن أنهم يحتاجونني هناك.

سأحكي للناس دومًا عنك يا خالد…

سأخبرهم أن هناك شابًا كان يفعل الكثير من الخير بدون مقابل.

في النهاية أريد أن أستسمحك في الأوراق التي كتبتها.

سآخذها لأن هذه الأوراق تجعلني أشعر بسعادة لم أشعر بها من قبل.

سامحني على أخذها بدون إستئذان، ولكني أريد الاحتفاظ بها كذكرى من أكثر شخص أحببته في حياتي.

أتمنى لك حياة سعيدة، وأتمنى أن تكون كلماتي جعلتك تشعر بي.

أعلم أنني لست ماهرة مثلك في الكتابة، ولكن أردت أن أعبر عن مشاعري بأي طريقة.

عليّ مغادرة الذكاء الآن قبل أن تغيب الشمس، ويُغلق باب الذكاء.

وداعًا.

خالد بعد ما قرأ الرسالة وعينيه إتسعت: باب الذكاء؟!!!

خالد حط الورقة في جيبه، وجري بسرعة ناحية باب الذكاء.

عمال يجري بسرعة، ما كانش فيه حاجة في ذهنه غير كلمات أسيل، وكان بيجري بطريقة مليانة لهفة، وكأنه ما جريش قبل كده في حياته، وبيتمنى إن الرياح تنقله بسرعة عند باب الذكاء.

خالد بدأ يجري في الشوارع إللي مليانة ناس، والناس كلها كانت مستغربة من طريقة جريه، وكإنه بيجري من ملك الموت.

وكل شوية كان بيخبط في حد، ويقع على الأرض وبعد كده يقوم يكمل جري تاني.

وفي مرة اتخبط، والورقة وقعت منه فبصلها وهو بيجري وسابها، وكمل جري لحد ما وصل لبوابة الذكاء، ولقاها اتقفلت، وقدامها حارس ضخم.

خالد بصراخ للحارس: أريد الخروج حالًا.

الحارس بابتسامة: ألا ترى أن الباب قد أغلق مع شروق شمس اليوم؟!

خالد بصراخ: يجب أن أخرج الآن.

الحارس ظهرت على وشه ملامح الغضب، وقال:إاذهب من هنا أيها الغبي، لا يمكن فتح البوابة بعد غلقها.

خالد بعد ما زاح الحارس بذراعه: لازم أخرج.

الحارس إتعصب، وضرب خالد ضربة قوية في وشه وقعته على ظهره، والدماء بدأت تنزل من مناخيره.

يامن ظهر بسرعة، وراح مسك خالد، وقال: خالد كفاك عبثًا هيا نذهب من هنا.

خالد قام من على الأرض، وبص على الباب الضخم، وعروق رقبته ظهرت، وقال بأعلى صوت كأنه عايز يهز أركان المنطقة: أسييييييييل!

يامن حسّ بالأسى على صاحبه وحضنه، وقال: هيا يا خالد كفاك عنادًا… عليك الرحيل الآن… عليك الرحيل الآن.

وبعد كده طلع الورقة إللي خالد رماها: إحتفظ بالورقة جيدا، ولا تتخلى عنها، وإعلم أن أسيل ضحت بحياتها فى الذكاء من أجلك.

لقد علمت أنها لو أنقذتك ستضطر للهروب لأنها ستكون فى نظر أهلها خائنه لذلك تركت لك هذه الرسالة.

خالد بصراخ، وغضب: أسيل مش خاينة. 

يامن بابتسامة: أنا أعلم أنها ليست كذلك، وعندما قرأت الورقة أدركت أنها ضحّت بكل شيء من أجل حياتك.

ينبغي أن تحترم قرارها وتضحيتها، وتنفّذ ما طلبته منك.

إذا عدت إلى بلدك وتزوجت الفتاة التي تحبها، سيكون ذلك مصدر سعادة كبيرة لأسيل.

خالد بحزن بعد ما حط إيده على راسه: بس البنت إللي أسيل عايزاني أتجوزها إتجوزت أصلًا.

يامن بابتسامة: حسنًا، هذا لن يغيّر شيئًا في خطتنا.

مهما حدث، أسيل لن تتمكن من العودة إلى هنا مجددًا، ولن تستطيع اللحاق بها.

لذلك، يجب أن تعود إلى بلدك، لأننا بذلنا الكثير لتحقيق الأمنية التي تريدها.

خالد بنبرة حزينة جدًا، وهو بيبص على باب الذكاء: بس أنا عمري ما كنت هرضى إنها تضحي بنفسها بالطريقة دي.

يامن بعصبية: كفى عنادًا.

أعلم أنك لم تكن لترضى بالتضحية التي قدمتها أسيل، لكنها فعلت ذلك لأنها تحبك، ولا وقت للندم الآن.

ثم أمسك يامن بيد خالد وسحبه، ونظر إليه بجدية: صدقني، أنت أفضل صديق حصلت عليه في حياتي، وبصراحة لم أكن أرغب في أن تخرج من هنا، وكنت أود البقاء معك طوال العمر.

لكنني أيضًا أريدك أن تعود إلى بلدك.

خالد بضحكة سخرية: بلدي إيه بقى؟ ما خلاص الفرصة راحت، أكيد صاحب البيت دلوقتي وصل المنطقة الغربية ودخل بيته.

يامن إبتسم، وقال: لا، لن يعود إلى منزله الليلة.

خالد بتعجب: إزاي؟!! مش الشاب إللي كان بيحرس البيت قالنا إنه هيرجع بيته في يوم الذكاء؟!

يامن بابتسامة: أعتقد أن 200 وحدة ذكاء تُعتبر عرضًا مغريًا يجعله يترك المنزل ليلتين.

خالد بدهشة: 200 وحدة إزاي؟!

يامن: أجل، 200 وحدة.

خالد: ليه تدفع الوحدات دي كلها؟!

يامن، وهو الابتسامة لسه موجودة على وشه: يجب أن تعلم، يا صديقي، أن أسيل ليست الوحيدة التي تحبك وترغب في مساعدتك.

خالد: ليه تدفع الوحدات دي كلها؟!

يامن وهو الابتسامة لسه موجودة على وشه: لازم تعرف يا صاحبي إن مش أسيل بس إللي بتحبك وعايزة تساعدك.

وبعد كده إبتسامته اتسعت أكتر، وقال: لما كنت بتخلينا نضرب أكلي الوحدات، وكنت بوفر وحدتين كل يوم كنت بوفرهم، وما كنتش باكل الفراخ.

سامحني إني ما قلتلكش قبل كده إني مش بحب الفراخ، وسامحني إني ما حضرتش منافسة الذكاء إمبارح.

كان لازم أستنى قدام البيت إللي بنحفر فيه، وأستنى صاحبه علشان أقوله إني عايز أأجر البيت لليلتين.

كنت خايف أحضر الاحتفال، ويرجع صاحب البيت، ونضيع كل حاجة.

خالد: طب وأنا هديك إيه مقابل الوحدات إللي دفعتها دي؟!

يامن بعد ما بص لخالد بطمأنينة: صدقني يا صاحبي، الوحدات دي ما تساويش السعادة إللي حسيت بيها في الشهور القليلة إللي قعدت فيها معايا، وكنت صديق وفيّ ليا.

خالد حس بفرحة شديدة، والكلمات لمست قلبه، ومسك يامن، وحضنه بقوة.

يامن وهو بيحضن خالد: ها يا صاحبي لازم تروح دلوقتي للمنطقة الغربية لأن الطريق طويل وما ينفعش نضيع كل حاجة بسبب تأخيرنا.

وبعد كده شاور على حصان أسود باين عليه القوة، وكان مربوط بعيد شوية، وقال: اركب الحصان ده، وامشي بيه للمنطقة الغربية، وهتلاقي إياد مستني هناك.

خالد بتعجب: وإنت جبت الحصان ده منين؟!

يامن بابتسامة: ما تقلقش، دي مش خدمة ليك.

في كل الأحوال، أنا استأجرت الحصان علشان أجي بيه للمنطقة الشرقية، وهترجع بيه إنت لصاحبه في المنطقة الغربية، وبكدا نكون ضربنا عصفورين بحجر واحد.

وبعد كده ضحك، وقال: أكيد مش أنا إللي هاروّح الحصان عشان لو روّحته أنا هارجع إزاي؟!!

خالد بفرحة: أنا متأكد إنى لو لفيت العالم كله، ورحت خمس أكوان موازية تانية، مش هلاقي صاحب جدع زيك يا يامن.

يامن بابتسامة: يلا يا صاحبي ما فيش وقت للكلام ده… اإتحرك بسرعة.

وعايزك تفتكرني دايمًا، وأنا هفضل هنا، وأحكي لأطفال الذكاء عن صاحب أغلى كتاب في الذكاء، وصاحب أغلى قبلة… القبلة إللي أنقذت حياته.

يامن راح جاب لخالد الحصان، وخالد ركب، وبعد ما ركب بص ليامن، وقال: أوعى تنسى إن في شاب في المنطقة الشمالية ممكن يطلع أخويا.

أرجوك لو قابلته في يوم، وكان محتاج مساعدة، ما تتأخرش عنه.

يامن بعد ما ضرب مؤخرة الحصان بإيده: ما تشغلش بالك بالموضوع ده يا صاحبي.

كل إللي عايزه دلوقتي إنك توصل للنفق، ولما توصل هناك، إياد هيديك كتابك.

أما أنا، فهروح أحتفل شوية مع أهل الذكاء، لأني عديت بوقت عصيب، حاسس إني محتاج أرقص مع واحدة من البنات.

خالد ابتسم، وبدأ يجري بالحصان وهو باصّص على يامن إللي كان واقف مبتسم وبيلوّح بإيده.

الحصان كان بيتحرك ببطء، وخالد عمال يبص على بيوت المنطقة الشرقية وقصورها إللي عاش بينهم لشهور.

لحد ما اختفى يامن عن أنظاره وساعتها بدأ يتحرك بسرعة ناحية البحيرة، وابتسم ونزل قدامها، وشرب من ميتها لآخر مرة.

بعد كده ركب حصانة مرة تانية، وأمره إنه ينطلق بسرعة، ووصل للطريق الممهد للمنطقة الغربية، والشمس منوّرة فوق دماغ خالد.

خالد كان بيجري بحصانة كأنه سهم سريع جدًا، وبيشق طريقه نحو الغرب.

في الناحية الثانية…

أسيل كانت بتجري بحصانها خارج أسوار الذكاء، ورايحة ناحية بيجانا ناحية الشرق.

كل واحد فيهم بيجري في طريقه، وكل واحد بيجري في اتجاه مختلف بعيد عن التاني.

خالد ما كانش بيفكر في أي حاجة غير كلمات أسيل، وأسيل ما كانش فيه حاجة في تفكيرها غير كلمات خالد.

وكل واحد فيهم بيبتسم لما يفتكر كلمات التاني، أسيل افتكرت احمرار وش خالد لما باسته.

خالد وأسيل فضلوا بصين على الشمس وكل واحد فيهم بيبص من ناحية مختلفة، والاتنين بيبصوا على الذكاء، وخالد كان بيودع الذكاء كإنه بيقولها هتوحشيني، وأسيل كانت بتبص على الذكاء وبتتمنى إن خالد يوصل للنفق، ويحقق حلمه.

الشمس غربت وخالد وصل مع غروبها لأطراف المنطقة الغربية، وراح ناحية البيت إللي بيحفروا فيه النفق، وأول ما وصل ودخل البيت لقى إياد مستنيه هناك.

إياد أول ما شاف خالد: أهلاً بعودتك يا صديقي، لقد سمعت بما حدث في المنطقة الشرقية.

مبارك عليك نجاتك.

خالد بابتسامة: شكراً جداً ليك يا إياد.

خالد بعد ما شاور على الحصان: الحصان ده إللي يامن استأجره.

معلش بقى هتعبك معايا عايزك تودي الحصان ده لصاحبه.

إياد بابتسامة بعد ما خرج الكتاب: حسناً يا صديقي تفضل كتابك.

خالد بابتسامة: أنا كده لسه مديون ليك بحق متابعة حفر النفق.

إياد بضحكة: لا تقلق، فصديقك يامن قد دفع لي هذا الأجر، وفي كل الحالات لم أطلب الكثير.

خالد بابتسامة: والله ما أعرف أودى جمايل يامن دي فين.

إياد: لقد قرأت بعض الصفحات من كتابك إن لم تمانع.

خالد: ولا يهمك يا حبيب قلبي.

إياد: لقد قرأت فيه أن السرداب يكون مضيئًا في ليلة البدر، ومن حسن حظك أن الليلة بدر أيضًا.

خالد بابتسامة: يا سلام على جمال القدر.

إياد بعد ما إدى لخالد مصباح ناري: أبقي هذا المصباح معك حتى تمر من النفق.

ولا تقلق، ستكون التهوية في هذا النفق جيدة، وعليك أن تعلم أيضًا أن هذا المصباح سينطفئ بعد إنتهاء الزيت.

خالد بابتسامة: حاضر.

مش عايزكم تنسوا تقفلوا النفق ورايا بعد ما أخرج.

إياد بابتسامة: بالتأكيد يا صديقي سنفعل ذلك.

نحن أيضًا لا نريد أن يكتشف أحد هذا الأمر… لأننا إذا كشفنا سيتم القبض علينا لأننا خائنين لالذكاء.

خالد حط يده على كتف إياد وصافحه، وبعد كده حط الكتاب في جيب قدامه على بطنه، ومشي ناحية فتحة النفق، ونزل السلم الخشبي، وكان ماسك في إيده مصباح، وسلم على إياد علشان يودعه.

خالد أول ما نزل النفق لقى الممر مظلم… فسمى الله، وبدأ يزحف على ركبته، وكان ماسك في إيده المصباح الناري وباصص قدامه وهو مبسوط، وبيقول في نفسه: خلاص ما تبقاش غير أمتار قليلة وأكون خارج الذكاء.

خالد كان بيزحف بسرعة جدًا وكأن كل النشاط والحيوية رجعوله.

لأنه كان مفتقد للنشاط والحيوية دول في الأيام إللي كان ذكائه فيها قليل.

خالد في نفسه وهو بيزحف: كمل يا يا خالد.

إمشي من هنا علشان خاطر أسيل، وعلشان خاطر جدك، وعلشان خاطر يامن.

إمشي علشان خاطر كل الناس إللي بتحبك وضحت عشانك.

خالد كان بيزحف، وعمال يتجنب الدعامات الخشبية إللي العمال سابوها أثناء حفرهم، وكان كل شوية يحس بتعب فيقف شوية، وياخد نفسه.

وبعد كده يبتسم بسخرية، ويقول: إيه يا خالد إحنا لسه في البداية.

إنت هتتعب من دلوقتي؟!

خالد فضل يعافر ويحفز نفسه لحد ما لمح بعينه الفتحة الثانية بتاعة النفق، والنور بيتسرب من خلال الفتحة دي.

خالد في اللحظة دي إبتسم، وعينيه كانت مليانة فرحة وسعادة، وفضل يزحف بقوة علشان يوصل للفتحة التانية دي، ويقول في نفسه: يلا يا خالد الأمل قرب، مجرد لحظات وتوصل لحلمك.

خالد فضل يحفز نفسه بالطريقة دي لحد ما وصل لنهاية الفتحة، ونط بره النفق.

خالد خرج من الفتحة وهو ماسك المصباح في إيده، ولقى نفسه في أرض رملية نور البدر بيصطع فيها، ولف وشه علشان يبص على سور الذكاء، واتفاجئ بشموخه، وارتفاعه العالي إللي كان حائل بينه وبين السرداب لفترة طويلة جدًا.

خالد بعد ما صرخ بصوت عالي: أنا خرجت من الذكاء… خرجت من الذكاء.

خالد فضل يرجع برجليه وهو باصص على السور.

لحد ما فجأة لقى نفسه بيتزحلق على منحدر رملي، والمصباح وقع من إيده، وما كانش مستوعب إللي بيحصله لأنه كان عمال يتدحرج على المنحدر، وجسمه عمال يتشقلب، ودماغه اتخبطت بقوة، وبدأت تنزف دم.

وفضل يتدحرج لحد ما بدأت حركته تقل واحدة واحدة، وجسمه وقف.

خالد أول ما بطل دحرجته بص قدامه، ولقى نفق ممهد بيتجه بانحناء لأسفل.

خالد بفرحة، وهو ظاهر عليه التعب من الدحرجة: أيوه ده واحد من فروع سرداب فوريك.

وبعد كده خرج الكتاب من جيب بطنه وباسه، وصرخ بصوت عالي: أنا مش محتاج لمصباح خلاص دلوقتي كده كده السرداب منور بالبدر.

خالد طلع يجري في السرداب إللي كان بينحني لأسفل، وما كانش بيفكر في أي حاجة غير إنه يوصل لنهاية السرداب ده.

خالد ما كانش عارف سبب إنحناء السرداب لأسفل، وكان بيعمل تفسيرات عبيطة من دماغه، بس كده كده ما كانش شاغله أي حاجة غير إنه يوصل للنهاية.

خالد فضل يجري، وكل شوية يقع بسبب إنحناء السرداب، بس كان بيقوم تاني وهو مبتسم لأنه عارف إن الأمل قريب جدًا.

فضل يجري بسرعة وأنفاسه بتتسارع… لحد ما حس بتعب شديد، وقعد في السرداب، وسند ظهره، وبدأ يمسح عرق جبينه.

خالد قام بعد ما ارتاح شوية وكمل مشي في السرداب لحد ما لقى صورة شبه الصورة إللي اتنحتت على سور الذكاء في المنطقة الغربية.

خالد بعد ما وقف قدام الصورة دي، وابتسم: إزيك يا فوريك.

وطبعًا بعد ما وقف قدام الصورة شوية حس بهزة شديدة في السرداب، وعرف إن دي الهزة إللي حس بيها في أول مرة جه فيها سرداب فوريك، وبص وراها على طول ولقى الجدران بتاعت السرداب بتقع.

خالد إبتسم كأنه بيبتسم لأسد بيجري عليه، وما كانش حاسس بأي خوف.

فضل يجري بسرعة وهي الجدران عمالة تنهار من وراه، وكان عارف كويس إن الانهيار ده بيدفعه لطريق مقصود.

لحد ما بدأ الانهيار يختفي والصوت يقل.

خالد بعد ما الانهيار وقف بص قدامه، ولقى طريق ممهد، ومتسع أكتر، والجدران عليها نقوش.

خالد بصراخ: أخيرًا وصلت سرداب فوريك.

خالد جري بسرعة في السرداب، ورجليه كانت عمالة تخبط في الهياكل العظمية المنتشرة في الأرضية بتاعة السرداب، وكمل جري لحد ما وصل لسلم طويل.

خالد طلع على السلم بسرعة، وبيتكلم مع نفسه بفرحة: ما تبقاش غير قليل يا خالد، شوية وهتوصل للي إنت عايزه.

خالد عمال يطلع على درجات السلم، ومايبصش وراه… لحد ما وصل لنهاية السلم، وساعتها حس بتعب شديد وبدأ ينهج وحط إيده على ركبته علشان يرتاح.

خالد: أنا خلاص كده خرجت من السرداب.

دلوقتي بقيلي النفق.

لازم أسرع بسرعة علشان النفق مافيهوش هواء، ومافيهوش إضاءة.

لازم أفتكر مساري كان عامل إزاي في النفق ده.

خالد غمض عينيه وبدأ يسترجع ذكرياته في النفق، وبعد كده خد نفس عميق، وبص على الفتحة الخشبية اللي بتوصل سرداب فوريك بالنفق، وسمى الله، وملا صدره هوا، وجري بسرعة في النفق.

خالد كان عمال يجري، وهو مش شايف أي حاجة، وكإنه بيغطس في أعماق المحيط، وكل ما يلاقي طريق فاضي يكمل جري لأنه ما كانش شايف أي حاجة.

خالد فضل يجري وهو محتفظ بالهواء إللي احتفظ بيه قبل دخوله النفق، وكان عارف إن الهواء مش هيخش بسبب تصميم النفق، وكأنه إتصمم علشان يكون قبر للاختناق.

خالد بدأ يحس بالاختناق، بس ما استسلمش وكمل طريقه، وأنفاسه كانت بتضيق، وقلبه بيدق بسرعة، وعينيه كانت هتطلع من دماغه من كتر الاختناق.

فجأة خالد إرتطم بحاجة صلبة، ولما تحسس الحاجة دي عرف إنها السلم إللي بيخرج من النفق.

خالد جري بسرعة على درجات السلم ده لحد ما دماغه إتخبطت في لوح خشبي، وافتكر إن اللوح ده هو اللوح إللي إتقفل عليه المرة إللي فاتت.

خالد فضل يزق اللوح ده بأقصى قوته، ويضغط على أسنانه، ويدفع بكتفه.

لحد ما بدأ الباب يتفتح شوية، والهواء بدأ يخش لصدر خالد.

خالد خد نفس أخير، وزق الباب بأقصى قوته، والباب إتكسر، وخالد نط بره النفق، وقعد جنب الباب.

خالد نام على ظهره جنب الباب، وقلبه كان بيدق بسرعة، وحاول يلتقط أنفاسه، وبيحسس على راسه علشان يشوف نفسه هو في حلم ولا حقيقة، وبيلاقي راسه محلوقة، وبيدرك إنه ما كانش بيحلم.

خالد قفل باب النفق وخرج بسرعة من البيت المهجور، وما لقاش أي صعوبة في إنه ينط من سور البيت العالي، وأول ما عدى من السور ده سمع صوت أذان الفجر، بيهز أرجاء البلدة بتاعة البهو فوريك.

خالد حس بفرحة شديدة، وبدأ يردد الأذان، وجري في شوارع منطقته إللي كانت فاضية، وكان كل ما يحس إن في حد قريب منه يستخبى علشان ما يشوفهوش بالهدوم الغريبة إللي كانت عليه.

فضل على الحال ده لحد ما قرب من بيته، وأول ما وصل وجه علشان يخبط الباب لقاه متوارب، وعرف ساعتها إن جده هو إللي سايب الباب مفتوح كده زي ما بيعمل على طول بعد أذان الفجر.

خالد دخل البيت وهو بيتسحب، وبص في الاوضة بتاعة جده ولقاه بيصلي الفجر، وهو قاعد على الكرسي، وصوته كان عالي وهو بيقرأ القرآن.

خالد قعد ورا جده، واستناه لحد ما يخلص صلاة، وفرح جدًا لما سمع صوت جده وهو بيدعيله أثناء السجود.

عبده خلص صلاته، وبعد ما سلم اتفاجئ بخالد وراه.

الدموع نزلت من عينيه تلقائي أول ما شافه، وجري عليه حضنه.

خالد عينيه دمعت من كتر الفرحة، وما كانش مصدق نفسه، وضربات قلبه كانت متسارعة.

عبده وهو بيعيط: إنت رجعت يا خالد.

خالد هو كمان الدموع نزلت من عينيه بدون إرادته، وكان فرحان جدًا لدرجة إنه ما كانش مصدق إن جده في حضنه، وفضل يمسح دموع جده، ويقول: مش قلتلك هرجعلك يا عبده.

خالد بعد ما قال الجملة دي وقع على الأرض مغمى عليه، وجده خايف عليه جدًا.

خالد فضل لمدة يوم كامل نايم، وكان باين عليه التعب الشديد كإنه ما نامش من سنة.

عبده كان قاعد جنب خالد بيبص عليه، وغيرله هدومه، وشاف الكتاب إللي كان في جيب بطنه، بس ما رضاش يفتحه لحد ما خالد يصحى، ويحكيله إللي حصل معاه الأول.

خالد قام من النوم بعد يوم كامل، وأول ما فتح عينيه شاف جده، وجنبه الراجل العجوز مجنون السرداب.

عبده: خالد صحي.

خالد بعد ما فتح عينيه، وإبتسم: يبدو أنكم كنتم قلقين علي.

الجد، ومجنون السرداب استغربوا من طريقة كلام خالد، وخالد إبتسم، وقال: معلش شوية وهرجع للهجتنا تاني.

الجد: ده إنت شكلك معاك حكاية عنب.

مجنون السرداب: هو إنت نزلت السرداب بجد؟!

خالد بابتسامة: عايزيني أبدأ القصة بتاعتي منين؟!

خالد بدأ يحكي قصته، وكل حاجة حصلتله من ساعة ما نزل النفق إللي بيوصل للسرداب، وحكالهم عن النفق الموجود أسفل البيت المهجور في قرية البهو فريك، وكل حاجة حصلتله من ساعة ما نزل السرداب، والصور إللي كانت موجودة على حيطان السرداب، والهياكل العظمية إللي كانت موجودة فيه، وحكالهم عن خروجه لأرض الذكاء.

خالد فضل يحكيلهم، وهما بيسمعوا كل كلمة بيقولها، وكل مدى عينهم توسع من الذهول.

خالد حكالهم عن قوة مدينة الذكاء، وعن أهلها، وطقوسها المناخية إللي ما بتتغيرش مع تغير الشهور، وعن شغله هناك في تقطيع الصخور، وعن يوم الذكاء، وعن يامن صاحبه وأسيل، وعن رحلته الطويلة إللي كان بيدور فيها على الكتاب.

خالد فضل إنه ما يقولش لجده عن حكاية الكتاب كاملة علشان مش عايز يعرفوا عن موت أبوه وأمه بالطريقة الشنيعة دي، وطبعًا ما جابش سيرة أخوه نهائي علشان ما يسببش حزن زيادة لجد.

جد خالد ومجنون السرداب ما سابهوش غير لما سألوه عن كل تفصيلة في رحلته.

لحد ما خلصوا كلامهم، واتفقوا إن الحكاية دي تبقى سر بينهم.

مجنون السرداب بتعجب: وليه ما نحكيش للناس كلها حكايتك؟

كله هيشهدلك بالبطولة لو عرفوا إللي إنت عملته.

خالد: صدقني يا حاج مش هيقولوا بطل خالص، هيتهموني بالجنون، ومش هيصدقوني.

مجنون السرداب: الكتاب ده أحسن دليل.

خالد بابتسامة: لا عادي هيقولوا إنك جايب الكتاب ده من مكان تاني، وهيقعدوا يطلعوا أي حجة علشان يكذبوك، أنا كده كده مش عايز حد يعرف إن أنا بطل، أوعِدوني إن الموضوع ده هيبقى سر بيني وبينكم.

الجد بابتسامة فخر: أوعدك يا خالد.

الراجل العجوز: وأنا كمان بوعدك.

الجد بضحكة: أنا متأكد إن منى هتفرح جدًا لما تعرف إنك رجعت.

دي كانت بتسأل عليك طول الوقت يا خالد، وعمرها ما سابتني يوم لوحدي غير لما تسأل عليّ.

خالد باستغراب: هي لسه ما اتجوزتش؟؟

الجد بابتسامة: لا.

منى قررت تعلم أبوها درس، وتعرفه إن الدنيا مش بتاعته هو لوحده، وكان كل ما عريس يتقدم لها ترفضه، ولو أبوها غصبها عليه كانت بتبوظ الجوازة، وحلفت قدام الناس كلها إنها مش هتتجوز.

خالد بابتسامة سخريه: أكيد إتجننت زي أبوها.

الجد بابتسامة: لا هي ما اتجننتش يا خالد.

هي حلفت إن هي مش هتتجوز أي حد غيرك.

خالد بابتسامة أسف: بس أنا مش عايز أتجوز دلوقتي يا جدي.

وبعد ما قال الجملة دي اتفاجئوا بمنى داخلة عليهم، وبصت على خالد وهي مصدومة، وعينيها لمعت من كتر الفرحه.

منى بفرحة شديدة: خالد إنت رجعت؟!

خالد بابتسامة: أيوه.

منى: مبسوطة أوي حمد لله على سلامتك.

خالد: أشكرك يا منى على انتظارك ليا كل هذه الفترة.

منى باستغراب: إنت بتتكلم كده ليه؟! هو إنت كنت في السعودية؟!

خالد بضحكة: أيوه.

خالد ضحك، والجد ومجنون السرداب قاموا، وسابوا منى وخالد مع بعضهم.

خالد بعد ما جده خرج فضل ساكت شوية، ومنى إستغربت، وقالت: خالد أنا حاسة إنك مش على طبيعتك، ومش شايفاك فرحان بكلامي.

إنت حبيت واحدة غيري لما كنت في السفر؟!

خالد بهدوء: بصي يا منى أنا رجعت من السفر، وما استفدتش أي حاجة من سفري، ولسه هبدأ من نقطة الصفر.

منى بابتسامة لطيفة بعد ما حطت إيديها على إيديه: وأنا يا سيدي هبدأ معاك أنا كمان من نقطة الصفر، وهبقى جنبك لحظة بلحظة.

خالد بأسف بعد ما شال عينه من على عينها: معلش يا منى اديني شوية وقت أرتب أموري، وبعد كده هقولك أنا هعمل إيه.

منى حست بحزن شديد، وقامت علشان تمشي، وقالت: ماشي يا خالد خد وقتك براحتك.

منى مشيت وهي حزينه، وخالد كان باصصلها ومش عارف يعمل إيه.

خالد كان عارف كويس إن منى بتحبه، بس هو ما كانش عايز يتسرع في رده عليها علشان كان عايز يتحقق من مشاعره ناحيتها الأول… خصوصًا إنه لسه ما خرجش من صدمة أرض الذكاء، وبعده عن أسيل، وقرر إنه لازم يلاقي شغل كويس يقدر يعمل من خلاله فلوس كويسة ويحقق أحلامه.

خالد فعلاً بدأ في رحلة البحث عن شغل مناسب، ويشتغل بالشهادة بتاعته، وفضل فترة طويلة يدور في أماكن كتير، وكان كل ما يترفد من مكان يبتسم وما يحسش باليأس أبدًا، وبيقول في نفسه وهو مبتسم ابتسامة عريضة: أكيد مش هزعل طبعًا.

إيه ممكن يكون أسوأ من الموت؟

خالد فضل كل يوم يروح يدور على شغل بالنهار، ويرجع بالليل علشان يتأمل السماء ويدور على النجم بتاع أسيل، ويفضل باصص في السما لحد ما يغلبه النوم، وبعد ما الشمس تشرق تاني يوم يقوم علشان يعمل إللي عمله في اليوم إللي قبله.

خالد إستمر في البحث لمدة طويلة إمتدت لأسابيع… لحد ما رزقه ربنا، ولقى شغل في فرع من فروع شركة كبيرة موجودة في مدينة نصر.

خالد فضل شهور يشتغل في الشركة دي، وكان ثابت وجوده والكل ملاحظ إجتهاده في الشغل، وكان دايمًا بيقابل أي مشكلة بابتسامة الكل بيحسده عليها، وبعد ما يخلص شغله كان بيروح على بيت جده إللي كان بيبقى قاعد طول الوقت بيقرأ في كتاب سرداب فوريك، وبيقرأ عن الذكاء.

خالد كان بيفرح جدًا لما بيشوف جده بيقرأ في كتاب سرداب فوريك، وجده كان بيسأله دايمًا عن أرض الذكاء، وعن مغامراته فيها.

خالد كان بيحكي لجده كل تفاصيل رحلته في الذكاء، وكان دايمًا بعد ما يخلص حكايته يخلي جده يوعده إنه ما يقولش لحد حاجة عن أرض الذكاء.

فضل خالد على الحال ده لحد ما جه في يوم من الأيام وقال لجده: إيه يا عبده مش ناوي تشوف حفيدك عريس بقى ولا إيه؟

عبده بفرحة شديدة: ده يوم الهنا يوم المنى يا إبني.

خالد بابتسامة وهو حاضن جده: بس إحنا هنروح للراجل الرخم ده نطلب منه إيد بنته لآخر مرة، والله بقى وافق هتجوزها، ما وافقش بقى هتجوزها برضه غصب عنه.

الجد بضحكة: أيوه يا ابني هو ده الكلام ولا بلاش.

خالد وعبده إتجهوا لبيت أبو منى، وخالد اتفاجئ لما شاف أبو منى بيرحب بيهم، وكمان شخصيته إختلفت تمامًا عن الأول، وقابلهم بطريقة محترمة ولائقة.

جد خالد بدأ يتكلم مع أبو منى، وطلب منه إيد بنته لخالد.

أبو منى بترحيب وابتسامة: أكيد طبعًا إحنا هنلاقي أحسن من خالد فين؟

خالد وجده استغربوا من رد فعل أبو منى، وأبو منى قاطعهم وقال: طب هنقرا الفاتحة ولا إيه؟

خالد فرح جدًا، وبدأ يقرأ الفاتحة وهو باصص على منى إللي كانت واقفة ورا باب المطبخ، وهي مبتسمة والزغاريت عليت، وخالد قام حضن أبو منى، وبعد كده حضن جده وفي نفس اليوم حددوا موعد الفرح.

عدت شوية أسابيع، وجه وراها شوية شهور، وخالد كان بيبذل كل جهده علشان يقدر يجمع فلوس الفرح، ويبقى مستعد للجواز تمامًا.

لحد ما جه اليوم الرابع عشر من سبتمبر، والأنوار إتعلقت قدام بيت خالد، والأهالي إتجمعوا علشان يهنوه بالجوازة، وخالد كان مبسوط جدًا وعمال يرقص مع المعازيم، والأجواء كانت سعيدة، ومنى كانت إيديها متشابكة في إيد خالد وعمالة ترقص معاه، وكل شوية تقرب من ودنه وتهمس فيها، وخالد ما كانش سامع أي حاجة بس كان بيهز دماغه وهو مبتسم كإنه سمعها، وفضل كده طول الاحتفال لحد ما الناس كلها مشيت، والفرح خلص.

خالد ومنى دخلوا شقتهم، ومنى وشها كان باين عليه الخجل والكسوف بعد ما دخلوا أوضة النوم.

خالد بضحكة: إنتِ بتتكسفي ولا إيه؟!

منى: طبعًا بتكسف.

منى فضلت تبص في عيون خالد شوية، وخالد كان في عالم تاني وكإنه مش مركز مع منى نهائي.

منى: خالد إنت لسه بتحبني؟

خالد بعد ما فاق على صوتها: إيه الكلام إللي بتقوليه ده؟! أكيد طبعًا بحبك… أمال أنا متجوزك ليه؟

منى بابتسامة بعد ما قربت منه: حساك غريب الفترة الأخيرة، مش إنت خالد إللي أنا أعرفه من زمان.

خالد ضحك، وما نطقش ولا كلمة، وراح ناحية البلكونة وفتحها، وأول ما فتحها الهوى دخل كإنه كان مستني الباب يتفتح علشان يخترق البيت.

خالد خد نفس عميق، وغمض عينه وبعد كده فتحها وبص على السماء، وأول ما عينه جت على السماء مباشرة قلبه دق بسرعة لأنه شاف نجم أسيل، وهو بعيد عن أغلب النجوم وشكله مميز.

خالد في نفسه بأسف وذهول: أسيل؟!!

منى وهي قعدة على السرير بفستانها الأبيض: تعرف يا خالد أنا نفسي بجد في شهر عسل مميز.

نفسي في شهر عسل عمر ما بنت متجوزة عملته في حياتها.

خالد بعد ما طول في النظر للسماء، وابتسم ابتسامة عريضة: تصدقي فكرة هايلة.

أنا برضه كنت بفكر إن إحنا نقضي شهر العسل بتاعنا في مكان مختلف.

منى بفرحة بعد ما قامت من على سريرها وراحت سندت على كتف خالد: بجد يا خالد؟

خالد بابتسامة: أيوه بجد يا روحي.

منى: طب هنروح فين؟

خالد بابتسامة: مش عارف كنت بفكر أروح مكان كده مختلف لدرجة إن التعامل فيه مش بالفلوس.

منى باندهاش: إزاي يعني؟! يعني التعامل فيه بالأعضاء ولا إيه؟!

خالد بضحكة بعد ما قرب منها وهمس في ودنها: لا ما تشغليش بالك… لما نروح هناك إنتِ هتعرفي كل حاجة.

flashback.

في فجر يوم الذكاء…

باب الذكاء قفل مع شروق الشمس، وما بقاش في أي حد خارج المدينة، والطرق بقت فاضية تمامًا.

لكن فجأة بيظهر حصان لونه أسود، وبيظهر عليه القوة، وكان راكب على الحصان ده بنت لابسة فستان أبيض حريري، وعينيها بتلمع، وظاهر على وشها الجميل الحزن واليأس.

الحصان كان بينطلق ناحية الشرق كالسهم، وكان عارف طريقه كويس ناحية بيجانا.

أسيل ما كانش في حاجة شاغلة بالها غير الأحداث إللي حصلت مع خالد، وبتغمض عينيها، وبتتخيل مشهد الذبح، وبتتمتم بكلمات تأمل فيها إن خالد ينجو من المحنة دي.

أسيل وقفت بحصانها فجأة، وبصت على أسوار الذكاء بصّة طويلة وكانها بتبص لآخر مرة، وعارفة إنها مش هترجع هنا تاني.

بيجانا البلد إللي كانت أسيل بتعيش فيها كانت بلد معروفة بجمالها وأبراجها العالية المنيرة، وسورها كان متميز جدًا عن باقي أسوار البلاد الثانية.

أبراج بيجانا كانت إسمها الأبراج المشتعلة لأن هي كانت بتبقى منورة ليل ونهار، وده بسبب الكشافات الزيتيه إللي ألوانها خلابة، وبتنور أعلى البرج طول اليوم.

أسيل وصلت لأطراف بيجانا مع ظهور الليل، والأبراج المشتعلة كان شكلها رائع جدًا.

القمر كان مكتمل لما أسيل وصلت لمدينة بيجانا، والحراس كانوا مندهشين جدًا لأنهم متعودين إن أسيل بتيجي بيجانا آخر النهار قبل يوم الذكاء، وبترجع قبل ما باب الذكاء يقفل.

أسيِل كانت متجهة ناحية بيتها، وماشيه في شوارع بيجانا، والكل متعجب جدًا من وجودها، وأسيِل كان ظاهر عليها التعب بسبب السفر الطويل.

أسيِل وقفت حصانها، ونزلت قدام بيت مكون من طابقين، وقدامه حديقة جميلة، والبيت كان محاط بسور من قوائم حديدية.

أسيِل نزلت من على حصانها ودخل عليها شاب، ورحب بيها، وأسيِل حطت إيديها على كتفه، وأديته لجام الحصان، وقالت: هل هناك أي أخبار تتنقل بين أهل المدينة عني؟

الشاب: في الحقيقة لا أعلم يا سيدتي فأنا لم أترك البيت.

أسيِل: حسنًا أريدك أن تذهب الآن وتتحرك بين أهالي المدينة، وتعرف إذا كان أحدهم يتحدث عني أم لا، وهل هناك أخبار انتقلت من الذكاء إلى هنا أم لا.

وعندما تعود أخبرني بما سمعت، وأنا سانتظرك يا صفي.

الشاب مشي وأسيِل دخلت البيت، وأول ما فتحت الباب بنت جميلة في سن العشرينات إنحنت ليها، وقالت: مرحبًا بعودتك يا سيدتي… سأعد الطعام حالًا.

أسيِل وهي ظاهر عليها التعب وبتطلع على درجات السلم، لا أريد طعامًا الآن، أخبريني فقط حينما يعود صفي من الخارج.

أسيِل طلعت أوضتها، وأول ما دخلت راحت فتحت البلكونة بتاعتها وفضلت تبص في السماء وهي سرحانة، وقعدت شوية وبعد كده رجعت قعدت على سريرها، وطلعت الورق بتاع خالد من شنطتها الحريرية، وحطيتهم جنبها من غير ما تقرأ ولا كلمة منها، وخلاص كانت هتنام من كتر التعب، والنعاس غلبها، بس صوت الخادمة صحاها وهي بتقول: لقد جاء صفي يا سيدتي.

أسيِل قامت بسرعة من على سريرها، وقالت: أدخليه بسرعة.

صفي دخل وإنحنى لأسيِل، وقال: سيدتي لقد انتشر خبر سريع عن نجاة ذبيح الذكاء، وذلك حدث قبل أن يتم الإطاحة برأسه.

أسيِل خرجت زفير قوي، وإبتسمت وكانها ارتاحت، وفي جبل إنزاح من على صدرها.

صفي: لكن هناك خبر سيء يا سيدتي.

أسيِل بابتسامة: لا يهم فقبل أن تقوله أنا توقعته.

صفي: للأسف يا سيدتي لقد أعلن حاكم الذكاء خيانتك أمام أهل الذكاء كلهم.

أسيِل بعد ما هزت راسها وهي مبتسمة: أجل أجل أعلم ذلك… إنه شيء متوقع جدًا من حاكم الذكاء.

هل هناك أي أخبار أخرى انتشرت عن هذا الشاب الغريب الذي نجا من الذبح؟

صفي: لم أسمع أي أخبار أخرى عنه يا سيدتي، ولكنني أرى أنكى يجب أن ترحلي من بيجانا حالًا.

أسيِل بتعجب: ولماذا؟!

صفي: لأن حاكم بيجانا سيبحث عنك إذا وصل له الخبر، وصدقيني سوف يصل له الخبر أسرع مما تتخيلين.

أسيِل: وما علاقة حاكم بيجانا بهذا الخبر؟!

صفي: لقد أصبح حاكم بيجانا أكثر الحكام موالاة لالذكاء، ولن يمنعه هذا الخبر من القبض عليك.

أسيِل: ألا يكفيهم أني خرجت من الذكاء تاركه كل شيء جيد خلفي، وجئت إلى هنا.

صفي: صدقيني يا سيدتي لقد أصبحت بيجانا مختلفة تمامًا منذ أن تولى حاكمنا الجديد الحكم، ولو رأى حاكم بيجانا أن وجودك خطر على الأشياء التي يستوردها من الذكاء… فسيتخلى عنكِ في لحظة.

أسيِل سكتت شوية، وبعد كده بصت لصفي، وقالت: لا يهمني ما سيحدث… فلقد اخترت قدري بنفسي، وأنا مستعدة لأي عواقب.

في الذكاء….

عدى أسبوع على يوم الذكاء، ويامن وقف قدام جماعة من العمال الموجودين في المنطقة الشرقية، وسألهم: يا أهل الذكاء… هل تريدون أن تعرفوا كيف نجا صديقي من الذبح في يوم الذكاء؟

كل العمال لفوا ناحية يامن وبصوا عليه، ومترقبين الإجابة.

يامن بسخرية: حسنًا كم ستدفعون من الوحدات مقابل هذا الخبر؟

العمال بصوا ليامن بقرف ورجعوا يكملوا شغلهم تاني، ويامن ضحك وطلع على مكان عالي ونده بصوت عالي، وقال: حسنًا أيها البخلاء سوف أخبركم.

لقد إبتاعت الطبيبة أسيِل منه قبلة، وهذه القبلة هي أغلى قبلة في تاريخ الذكاء.

كل الموجودين اندهشوا من كلام يامن الغريب، ويامن إبتسم لأنه اتعود يشوف الدهشة في وجوه الناس بعد ما يقولهم على قبلة أسيِل لخالد.

واحد من العمال باستغراب: قبلة؟!!

يامن: أجل، قبلة، إن الطبيبة أسيِل أحبّت خالد، ولم تُرد أن يتم ذبحه في يوم الذكاء، وضحت بوحدات كثيرة من أجل حبها له.

صدقوني أن أسيِل ليست خائنة كما تعتقدون، لقد كانت الالذكاء محقة باختيار خالد لأنه كان فعلاً هو الأفقر، ولكن بعد الالذكاء أرادت أسيِل أن تنقذ خالد وأعطته هذه القبلة لكي تنقذه.

واحد من العمال بعد ما قاطعه: بالطبع هي خائنة.

كلنا نعلم أن قوانين الذكاء تمنع التعامل مع أي فرد إختارته الالذكاء، هذه مخالفة صريحة، والطبيبة أيضًا تعلم أن هذه خيانة.

يامن: يا صديقي أنا أعلم أن ما فعلته يعتبر خيانة، ولكن أريدكم أن تعلموا أنها ضحت بكل شيء من أجل حبها.

 واحد من العمال بصراخ: مهما كانت نيتها فهذا لا يبرر فعلتها الشنيعة، إنها خائنة وحاكمنا يعلم ذلك، وليس هناك شيء سيغير قرار الحاكم، وإن كان ما تقوله حقيقياً فيجب عليها أن تعاقب، وأيضًا يجب أن يعاقب الحارس الذي سمح لها بزيارة الفقير الغريب قبل أن يُذبح.

يامن كان لسه هيرد عليه، بس سكت لأنه سمع صوت ضعيف لحد بينده عليه من الخلف.

يا من بعد ما لف راسه: شاف بنت لابسة وشاح ومغطية وشها، وبتقول: هِاى أنت.

خالد بعد ما قرب منها: أتنادين علي؟

البنت: أجل… هل أنت صديق خالد حقًا؟

يامن: أجل أنا هو.

البنت: أنا فتاة من سكان المنطقة الشمالية، وأنا من أخبرت خالد عن الكتاب الذي كان يبحث عنه، وعن هلال الذي قتل أبيه.

يامن بصوت عالي: هل أنتِ العاهرة؟!

البنت ببرود: أجل أنا هي.

يامن: ماذا تريدين مني؟ ولماذا تغطين رأسك؟

البنت بعد ما كشفت وشها: هناك أخبار جديدة، وهي سيئة للغاية.

لم تعد الطبيبة وحدها هي الخائنة، لقد بلغ أحد التجار الموجودين في المنطقة الغربية أن هناك في بيته نفق يؤدي إلى خارج سور الذكاء، وأقر خادم البيت أن هناك شاب إستأجر منه البيت هو وأصدقاؤه لحين عودة صاحبه، وأيضًا أقر صاحب البيت أن هناك شاب إستأجر منه البيت لمدة ليلتين مقابل 200 وحدة من الذكاء.

يا من بعد ما ظهر على وشه ملامح الغضب: هؤلاء الملاعين… لقد تكاسلوا عن عملهم رغم أنهم حصلوا على أجرهم لإغلاق النفق.

وبعد كده بص للبنت، وسألها: من أين عرفتِ هذه الأخبار؟

البنت: هناك عائلة في المنطقة الشمالية تعرف جميع أخبار الذكاء، ولديهم الكثير من المرشدين، وحينما كنت جالسة مع أحد أفرادها كان يقول هذه الكلمات حينما كان يشرب الخمر.

يامن: ولماذا تخبرينني بهذه الأشياء؟ ماذا تريدين في المقابل؟

البنت: لقد سمعت أن حراس الذكاء ينتشرون في المدينة للبحث عن الأوصاف التي أعطاها لهم الخادم، وقد أرسل الحاكم إلى مناطق الذكاء المجاورة صفات خالد، وأمر قائد كل منطقة بإحضار الأشخاص الذين تم رؤيتهم مع خالد أكثر من مرة، وسمعت أيضًا أن تلك القائمة شملت الطبيبة أسيِل، وشاب يدعى يامن من المنطقة الشرقية، وشاب أيضًا يدعى إياد من المنطقة الغربية، وفتاة تدعى نادين قد عرفوها من خلال شاب يدعى هلال تم إمساكه في المنطقة الشمالية، وهلال أخبرهم أن هذه الفتاة كانت تساعده، ومن أجل أن يخرج هلال من تلك المصيبة أخبر الحراس أنه يتمنى ذبح هؤلاء الأشخاص ولا يهتم لأمرهم.

نادين خدت نفسً عميقً، وكملت كلامها: إن الرجل السكير الذي أخبرني بكل هذه الأشياء كان أحد الجنود الذين يبحثون عني، ولكنه لم يعرف أني نادين، وقمت باستغلاله قبل أن يغمى عليه من كثرة الشرب، وأخبرني أن هناك أمر من حاكم الذكاء بإرسال الجنود إلى بيجانا لإحضار أسيِل من هناك، وأخبرني أيضًا أن الباقين من أصدقاء خالد سيكونون نزلاء سجن الذكاء، وسيتم اعتبارهم مجرمين من الدرجة الأولى.

بعد أن سمعت كل هذه الأخبار لم أجد أمامي أي حل غير أن آتي إليك وأخبرك.

يامن بارتباك، وتوتر: إنني أشكرك حقًا أيتها الفتاة… لقد أنقذتى حياتي… شكرًا لكِ على المساعدة.

يامن لف وشه علشان يمشي، بس استغرب لما لقى البنت بتمسكه من إيده وبتقول: إلى أين أنت ذاهب؟! هل حقًا تظن أنني قطعت كل هذه المسافة من أجل لا شيء؟!

يامن بتعجب: لا أعلم ماذا تريدين، ولكن لا تقلقي فأنا لن أخبر أحد عن مكانك، ولا أعلم لماذا قام هلال بالوشاية عنك، ولكني أعلم أنك بريئة وليس لديك أي ذنب فيما حدث.

نادين: هل تظن حقًا أن هناك أحد سيصدقني؟! بعد أن قام هذا الندل الذي يدعى هلال بالوشاية عني، وأخبرهم أني ساعدت خالد.

أنا لست مستعدة لكي أخاطر بحياتي على أمل أن يصدقونني.

لست مستعدة لاختبار عدلهم، وأيضًا لست مستعدة للذبح.

بعد كده بصيت في عيون يامن ببراءة، وقالت: من هذه اللحظة سأكون معك في كل خطوة… لأنه ليس هناك أحد على وجه هذه الأرض يمكنني أن أثق به مثلك.

وبعد كده غمزت بعينيها قبل ما تقرب من ودنه، وهمست: إن كنت تريد أن تكون هاربًا فصدقني لن تجد فتاة أجمل مني لتكون رفيقتك أيها الخائن.

في بيجانا…

في الوقت ده أسيِل كانت بتجري ورا راجل دخل عليها البيت علشان يستنجد بيها لأن مراته وقعت في السوق، وأغمى عليها.

أسيِل كانت بتجري ورا الراجل ده وسط زحام سوق بيجانا… لحد ما وصلت لزوجة الراجل، وساعدتها لحد ما بقت كويسة.

الناس كلها اتلمت حوالين أسيِل، والصوت العالي إللي كان في السوق إتحول لصمت تام بعد ما واحد من الجنود العسكريين قرب من أسيِل، وقال: سيدتي لقد صدر أمر من الحاكم بأن نقبض عليكى ونضعك في السجن الغربي لحين فتح باب الذكاء بعد سبعة أشهر.

السجن الغربي كان أكبر سجن موجود في بيجانا.. تم تقسيمه من خلال المهندسين إلى قسمين: القسم الأول كان عبارة عن بناء حجري مكون من طابقين، وكل طابق مقسم لزنازين ضيقة متجاورة للرجال والنساء، وكان أمامهم ممر واسع يفصلهم عن القسم الثاني.

الساحة دي إتعرفت بأنها للسجناء الأكثر خطورة في بيجانا، وكانت محاطة بسور صخري يبلغ إرتفاعه حوالي 30 قدم، ومحطوط عليه جنود كتير ماسكين سهام، وعلى مسافات متقاربة.

أسيِل دخلت السجن ده، وكانت قاعدة في زنزانة شبه مظلمة، وما كانتش بتتحرك ولا حركة، وأيامها عمالة تعدي قدام عينيها من غير ما تقف، وعقلها مش راضي يبطل صراخ.

أسيِل كانت حاسة إن الزمن بقى عدوها من ساعة ما دخلت السجن… لدرجة إن دقائقها كانت بتعدي عليها كأنها ساعات، والساعات كأنها سنوات.

فضلت قاعدة طول الوقت تبص على جدران السجن المظلم، وحاسة إن الحياة ملهاش أي طعم أو معنى.

الباب كان بيتفتح مع ظهور شمس الصباح، وبيخش عليها جندي ماسك في إيده أكل من النوع الرديء جدًا، وبيقولها إن الباب هيفضل مفتوح لحد غروب الشمس، بس أسيِل ما كانتش بترد عليه وتهز راسها، وبعد ما الحارس يمشي ما تتحركش من مكانها وتكمل سرحان في حزنها.

يوم ورا يوم أسيِل كانت بتحس إن أيامها كلها شبه بعضيها، وما كانتش بتخرج من زنزانتها إلا وقت قليل جدًا، وبعد كده بترجع تقعد في الركن بتاعها، وتفكر في أفكارها السلبية، وذكرياتها، ما كانتش بتتكلم مع أي حد، وما كانتش بتاكل إلا ما بعد ما تحس إنها هتموت من الجوع.

في صباح أحد الأيام… أسيِل قامت من النوم على صوت صراخ ما كانتش بتسمعه قبل كده من ساعة ما دخلت السجن، وقامت بسرعة فتحت باب زنزانتها، وبصت على حوش السجن، واتفاجأت بعدد كبير من الناس رجال ونساء، وشباب، وشيوخ عددهم بيتجاوز المئات، وهدومهم مبلولة، وشعرهم بيلمع بزيت، وكلهم متجمعين جوه دائرة جير تم تحديدها وسط الساحة الواسعة.

أسيِل استغربت من المشهد إللي هي كانت شايفاه، فبصت ناحية الجنود الموجودين في أعلى السور، ولاحظت إن أعدادهم تضاعفت، وبعد كده سمعت صوت حد بيكلمها، وبيقول: هذه أول مرة تتركي زنزانتك.

أسيِل لفت وشها علشان تشوف مين إللي بيقول الكلام ده، ولقت راجل عجوز في سن الأربعين إبتسم لما أسيِل لفتله.

الراجل العجوز: لا تخافي فانا جارك.

وبعد كده شاور على زنزانته إللي كانت جنب زنزانة أسيِل.

أسيِل بابتسامة: مرحبًا يا سيدي..

أسيِل بصت على باب السجن الغربي إللي كان ضخم جدًا، وكان بيعدي منه صف من السجناء، وبيقف كل واحد فيهم لمدة ثواني قدام أحد الجنود، والجندي بيصب عليهم الزيت، وبعد كده بيخش السجين إللي وراه، وبينزل عليه الزيت هو كمان.

أسيِل بتساؤل، وهي بتتكلم مع الراجل العجوز اللي جنبها: ما الذي يحدث هنا؟ ولماذا يتم سجن كل هؤلاء الناس؟!

الراجل العجوز: إنه عهد مينجا.

أسيِل بتعجب: لم أفهم، سامحني فانا لم آتِ إلى بيجانا إلا منذ أيام قليلة.

الراجل بابتسامة: أنا أعرف جيدًا من أنتِ، ومن أين جئتِ.

إن كل الأخبار تأتيني لأن لدي فضل كبير على السجناء هنا، وأيضًا على الجنود.

أيتها الطبيبة، إن بيجانا قد أُنهكت من الحروب التي خاضتها، وبدلاً من إهتمام الحكام بإصلاح ما أتلفته الحروب، قاموا عوضًا عن ذلك بتعزيز سلطانهم، ولهذا رحل الكثير من الحرفيين والأذكياء إلى بلاد أخرى لكي يتم تقديرهم، وبعد مرور العديد من الأيام أصبحت بيجانا لا تنتج شيئًا بنفسها، وتستورد كل الأشياء التي تريدها… حتى ما تنتجه من زيوت أصبح بالكاد يكفي الأبراج المنيرة، والسجناء إن لزم الأمر.

الراجل العجوز شاور على بوابة السجن إللي كان تحتها بنت بتدخل من البوابة، وجنبها أحد الجنود، وبيدلق عليها جردل زيت، وبعد كده شاور على الحلقة إللي تم رسمها في حوش السجن، وواقف فيها عدد كبير من المساجين المتغرقين بالزيت، وقال: لقد قل عدد الأذكياء والعلماء في بيجانا، وهؤلاء هم من تزايدت أعدادهم.

أسيِل قلبها كان هيقف لأنها شافت مشهد مريع لشاب خرج من الحلقة إللي كانت مرسومة، وجري بسرعة ناحية سور السجن الغربي، وحاول يتسلقه، وفجأة ظهر سهم ناري إتجه لظهر الشاب إللي كان بيتسلق السور، والشاب بدأ يصرخ بصوت عالي بسبب إن النار مسكت فيه.

أسيل كانت بتتفرج على المشهد المُرعب ده، وشافت الشاب وهو بيولّع قدّامها من غير ما حد يساعده، بسبب إن كل المساجين خايفين إن النار تطولهم هما كمان.

الرجل العجوز ببرود: أظن أنك علمتِ الآن لماذا يتم دهن هؤلاء المساجين بالزيت.

أي سجين سيخرج من الدائرة سيُطلق عليه سهم ناري، وبسبب الزيت سيحترق.

لقد رأى حاكم بيجانا أن أمثل طريقة لإطعام 500 ألف بيجاني هي من خلال السمع والطاعة للأقوياء، وأن يستدين هؤلاء الضعفاء للأقوياء حتى يأتي يوم ويجمعوا فيه الكثير من الأموال، ثم يردّون دينهم لهؤلاء الأقوياء.

وكما يعلم الجميع، إن الذكاء لم تكن لتعطينا ثمرة واحدة، لذلك إكتفينا بالسمع والطاعة، وفي هذا الوقت رحّبت بنا أماريتا، وأصبحت تديننا كل شيء منذ سنوات عدّة، وهناك أقوال تقول إن بيجانا ستحتاج إلى تلال من الذهب لكي تسدد دينها لالذكاء.

وبعد كده شاور على السجناء، وقال: وها قد حان الوقت لتسديد هذه الديون.

أسيل بتعجب: من خلال؟!

الرجل العجوز: أجل، للأسف لقد امتلأت سجون بيجانا بالفقراء، وهذا بعد رحيل رسول أماريتا الذي جاء بضعة أيام إلى بلادنا، وجميع الفقراء في طريقهم الآن إلى السجن لكي يرحلوا إلى أماريتا في الغد.

لقد قرّر حاكمنا أن يضحّي بجميع فقراء بيجانا من أجل أن يعيش البقية في سلام، وقد وافق على إدخال عهد بيجانا إلى بلدنا، أو ما يُسمى في بلاد أخرى اتفاقية البشر مقابل الديون.

ستُسدد بيجانا ديونها من خلال إرسال 1000 فقير إلى أماريتا كل عام.

أسيل: إذًا، هل يريدون أن يصير بين الناس الخوف من لعنة الفقر مثل الذكاء؟

العجوز: أجل، ليس هناك حل أمام أهل بيجانا سوى أن يعملوا بجدّ لكي يكونوا ثروة كبيرة، أو يكونوا فقراء فيدخلوا هذه الدائرة بعد عام وهم مبتلين بالزيت.

في الزنزانة…

أسيل كانت قاعدة بزنزانتها بتفكر في الكلام إللي سمعته من جارها السجين، وبتفكر في الفقراء إللي بقوا عبيد بسبب الفقر، وكانت عينيها بتتملى دموع لما بتفتكر نظراتهم الضعيفة وحزنهم، وكانت بتحط راسها بين كفّيها، وبتبقى خايفة جدًا لما بتسمع صوت لحم بيحترق، وبتدرك كويس إن في فقير دلوقتي بيتحوّل لرماد بعد محاولته للهروب.

أسيل خرجت من زنزانتها، ولقت إن عدد الفقراء في الساحة زاد، والضعف باين على وشهم، والشمس قرّبت تغيب، وبصرها جه على بنت وشّها شاحب، وعينيها مليانة خوف.

أسيل في نفسها وهي بصّة للبنت بحزن: يا عزيزتي الجميلة، لا تخافي، فحالك أفضل بكتير من حال فتاة تعرف إنها ستُذبح بعد شهور قليلة.

وبعد كده بصّت حواليها وقالت: تبا لبلد باعت أبناءها.

أسيل رجعت لزنزانتها والحارس قفل الباب بتاعها، والليل غيّم على المكان، والهدوء انتشر في الساحة، والناس كلها أفواهها سكتت، ودماغهم هي إللي بقت تتكلم، والتفكير سيطر على الجميع.

تاني يوم الصبح…

الرجل العجوز صحى على صوت خطوات أسيل وهي بتخش الزنزانة بتاعته وهي مبتسمة، والرجل العجوز استغرب جدًا من وجودها في الزنزانة بتاعته، واستغرب أكتر من إبتسامتها.

الرجل العجوز إتعدل من نومته بسرعة، وأسيل اتقدّمت وقعدت على ركبتها، وبصّتله بابتسامة: أريد أن أعرف كيف لفتاة في الخامس والعشرون من عمرها أن تيأس بهذه السهولة.

كيف لها أن تيأس وقد أحبت شابًا لا يعرف شيئًا اسمه الاستسلام، يبدو أن هذا الشاب قد أعطاني درسًا مسبقًا لهذه المحنة التي أنا موجودة فيها.

لتكملة القصة اضغط الزر بالاسفل



هل كان المحتوى مفيداً؟

نعم
لا
شكرا لك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى