Close

أخباركم

رواية نوفيلا أسمنجون (الجزء الأول) للكاتبة مريم محمود

 


اهداء الى محبي الخيال

دعونا نغوص معا في عالم من الخيال البحت ، بعيد كل البعد عن الواقع والمنطق

بقلم/ مريم محمد عبد القادر

___زمرد___

الزمرد هو واحد من أجمل الأحجار الكريمة وهو يحتل المرتبة الثالثة من حيث الأهمية .. أما بالنظر الي الأوزان فهو الأعلى قيمة بين الأحجار الكريمة .. والزمرد الكامل نادر الوجود وإذا وجد يكون أغلى من الألماس .. ويوجد أكثر من أثنى عشر نوعاً من الزمرد .. والألوان الأكثر شهرةً الأخضر والأصفر والأزرق الأخضر منه غامق عميق وشفاف ويرمز الي الربيع والأمل والأمان

ولكن الزمرد الذي أتحدث عنه ليست تلك الأحجار البرّاقة.. وإنما هي زمردة نادرة لا يوجد منها سوى واحدة فقط في هذا العالم ( زمرد بلال ) فتاة جامعية تدرس في كلية الآداب بمحافظة السويس وهي فتاة فاتنة نحيلة متوسطة الطول تمتلك شعرا مموجا بلون أسود لامع .. يصل الي منتصف ظهرها تقريبا .. يزينه حجابها الجميل .. وعيون زمردية خضراء تستشعر الهدوء إذا نظرت إليها فتغوص فيها وكأنك في أعماق محيط .. أصابت والدتها عندما سمتها زمرد بسبب عيونها .. ويزين وجهها الثلجي شفاه من ورد شاحب .. وحاجبان مقوسان في تناسق رباني بديع .. كما أنها تتمتع بشخصيتها الواثقة الحكيمة والمثقفة .. ولديها محيط هادئ وخيال واسع فيّاض .. تعشق القراءة ورائحة الكتب .. ليس لديها أصدقاء تقريبا .. عدا كتابها الذي لا يفارقها أبداً.

الي متى ستظلين جالسة هكذا ؟ كفى قراءة لليوم .. لقد إقتربت امتحاناتك النصف سنوية .. ولابد أن تجتهدي قليلا في دراستك … أنهضي هيا

نطقت السيدة (هديل) بتلك الكلمات الي ابنتها التي كانت تجلس على الأريكة .. وتحتسي فنجانا من الشاي الأسود بالقرفة التي كانت رائحتها تعبق في المكان .. كانت زمرد شاردة الذهن في مملكة الخيال الخاصة بها .. ولم تسمع صوت والدتها التي تحدثها .. هذه هي عادتها فكلما قرأت كتابا ما لا تسمع ما يدور من حولها أو من يتحدث إليها .. أختطفت الأم الكتاب من بين يدي ابنتها وأعادت كلماتها مرة آخرى

نهضت زمرد متجهة الي غرفتها وهي تمسك بفنجان الشاي وفي نفسها شئ من التضجر .. فقد كانت أحداث الرواية في ذروتها ولكنها لم تظهر تضجرها احترامًا لوالدتها

كانت زمرد متفوقة في دراستها .. مجتهدة لا تحتاج الي من يحثها على الدراسة وقد كانت والدتها تعرف هذا جيدا ولكن لابد من الشدة بين الحين والآخر فهي لا تريد أن تتكاسل ابنتها أو أن ينخفض مستواها الدراسي فهذه هي طبيعة الآباء .. دائماً يحبون الأفضل لأولادهم

مرت الأيام الشاقة ومرت معها الامتحانات المرهقة وعادت زمرد الي قوقعتها مرة آخرى تقرأ في كتبها

*****

في أحد الأيام .. قررت زمرد الذهاب الى العجوز بهاء صاحب حانوت الكتب الذي اعتادت الذهاب اليه .. لتبتاع بعض الكتب الجديدة .. عجلت الفتاة في الخطى كعادتها ووصلت أخيرا الي المكان المراد .. حانوت صغير قديم يجالسه شئ من الظلام تتخلل ظلمته أشعة الشمس بسهولة .. يعبق برائحة التراب وأوراق الكتب العتيقة التي لاطالما عشقتها زمرد

دلفت الي الحانوت بهدوء كالعادة لتجد شابا قمحي اللون أسود الشعر ضخم البنية .. ملامحه غريبة وكأنه ليس من هنا ولم تكن زمرد رأته من قبل .. كان يجلس على مكتب العجوز بهاء .. يبدوا أنه لم يأتي اليوم الي حانوته .. كان الشاب ينظر الي زمرد بنظرات غريبة اربكتها .. ثم وجه إليها كلمات بصوته الأجش ولكنته الغريبة كملامحه :

« سَتُعاد الأسطورة ثانية ً .. بحثت عنكِ في كل مكان .. لماذا تأخر ظهورك كل تلك المدة »

اقشعر جسد زمرد وتغيرت تعابير وجهها بسبب تلك الكلمات ولكنها ادعت عدم سماعها وتابعت ما جائت لأجله.. وتجولت في حانوتها المحبب الي قلبها .. تلقي بنظراتها العاشقة الي الكتب هنا وهناك ومرت ساعة -لم تشعر بها- وهي ماتزال واقفة وفي يدها أحد الكتب تقرأ فيه

وأخيرا أغلقت الكتاب ووضعته فوق أربعة كتب آخرى وتوجهت الي المكتب -والذي كان الشاب مايزال يجلس عليه- ووضعت الكتب أمامه .. أخبرته أنها ستشتري كتابين وتستعير الباقين .. أما الغريب في الأمر هو أن الشاب لم يرد على زمرد .. بل إنه لم ينظر إليها .. وكأنه أصبح شخصا مختلفا خلال تلك الساعة .. ولكن زمرد لم تأبه بهذا وأشاحت بنظرها عنه تخرج نقودها من حقيبتها بينما الشاب يضب الكتب داخل حقيبة ورقية .. ثم قامت بتسديد حسابها ورحلت

خرجت زمرد من حانوت الكتب متجهة الي منزلها وعلامات السرور بادية على وجهها بجلاء .. فسعادتها بانضمام أفراد جدد الي مكتبتها لا توصف .. كانت تتحرق شوقا لقراءة كتبها الجديدة .. فعجلت في سيرها ثانيًة حتى أنها كادت تركض من فرط سرعتها

وصلت زمرد أخيراً الي المنزل وخلعت حذاءها ودخلت الي غرفتها التي أغلقت بابها بعد دخولها منه .. وجلست على مكتبها تخرج ما بداخل حقيبتها من كتب

كانت السيدة هديل تدرك مدى عشق ابنتها للقراءة .. وكانت إذا رأتها في تلك الحالة التي هي عليها تركتها تماما حتى تخرج هي بنفسها من غرفتها بعد ان تشبع فضولها تجاه الكتاب الذي تقرأه .. حتى لو استغرق هذا عدة ساعات طويلة

أخرجت زمرد الكتب وبدأت تضعهم على مكتبها جنبا الي جنب .. ولكن ما كان غريبا هو أن الكتب كانت سته وليست خمسة كما اختارتهم يبدوا أن هذا الشاب قد أخطأ وهو يضعهم في الحقيبة

أمسكت زمرد بالكتاب السادس الذي بدى غريبا للغاية .. كتاب رفيع لونه كالرمال المصبوغة باللون الأسود بسبب البازلت -وهي صخور نارية بركانية صلبة خشنة سوداء-وعلي غلافه نقوش غريبة بارزة بلون الكهرمان .. ولم يكتب عليه أي عنوان .. وكانت رائحة  الصخور والرمال تفوح منه.

تركت زمرد الكتاب وقررت اعادته مرة آخرى لصاحب الحانوت فهي لم تبتعه ولكن فضولها الشديد جعلها تجلس وتمسك الكتاب

ألقت زمرد نظرة فاحصة على الكتاب مرة آخرى.. ثم بدأت بتقليب صفحاته الصفراء العتيقة .. لم يكن هناك الكثير من الصفحات التي كتب فيها فقد كان معظم الكتاب فارغا كما أنه كان مكتوباً بخط اليد.. عادت زمرد الي الصفحة الأولى التي رسم فيها مجسم صغير غير واضح الخط لمدينة غريبة مكتوب أسفلها اسمها .. ولكن الخط لم يكن واضحا ثم تلاها عدة ورقات ممزقة وبدأت كلمات الكتاب من الصفحة التي تلي الصفحات الممزقة .. كانت الكلمات غير واضحة نسبياً ولكن الخط الذي كتبت به كان مرتبا وجميلا فسهل علي زمرد قراءتها كانت الصفحات تتحدث عن بعض الأعشاب وما تعالجه من أمراض .. ثم كُتبت بعض السطور التي تبدوا أنها شروح لتضاريس واتجاهات ما .. في شكل خريطة صغيرة

كان معظم محتوى الكتاب هكذا.. خرائط وأعشاب طبية .. حتى تغير الخط فجأة .. وكتبت بعض الكلمات الغريبة التي أصابت زمرد بالحيرة والتعجب .. فقد كانت الكلمات وكأنها تتحدث إليها :

« أعرف بأي نظرات متعجبة تنظرين الي بها الآن كما أنني أعرف هذا الفضول الذي دفعك الي قراءة هذا الكتاب .. وأعرف أن فضولك زاد الآن بعد قراءة تلك الكلمات .. لذا كان لابد أن أخبرك بعض الأشياء التي يجب عليك معرفتها قبل أن تبدئي رحلتك.. قد تتعرضين للخطر الشديد أو تكوني قريبة جدا من الموت ولكن لا يجب عليك أن تيأسي .. فأنتِ قوية .. قادرة على التغلب علي كل الصعاب التي ستواجهك .. وايمانك بالله ودعاءَك إياه سيؤنسك في دياجير الظلام .. وتذكري أن الخوف قد يقتلك هناك .. فلا يجب عليك الخوف أبدا .. ولا تتهوري وحافظي على جوهرتك ولا تفقدي ما هو عزيز عليك أبداً »

زمرد : لم أفهم ما المقصود من تلك الكلمات ؟ أي رحلة وأي خطر هذا ؟ وما هي الجوهرة أو الشئ العزيز الذي لا يجب أن أفقده ؟

أستمرت زمرد تقلب في صفحات الكتاب.. وأعادت قراءتها أكثر من مرة .. ولكنها لم تصل لشئ يذكر حتى وصلت لآخر ورقة في الكتاب .. تلك الورقة لفتت انتباه زمرد لسببين .. أولهما انه كان تفوح منها رائحة عطرة مختلفة عن رائحة الكتاب .. وأما السبب الآخر فانها كان مرسوم عليها شكل غريب للغاية نجمة خماسية الرؤوس .. بداخلها شكل بيضاوي قليلا .. مخطط بشكل عشوائي من الداخل.. ويحيط بهم شكل غير مكتمل لكف إنسان وكتب تحتها كلمة واحدة .. أسْمَنْجُون

فور أن قرأت زمرد تلك الكلمة (أسْمَنْجُون) .. حتى تحولت أوراق الكتاب في يدها الي اللون الأسود وبدأت الأرض تهتز من تحت قدميها بقوة .. فنهضت من على الكرسي الذي تجلس عليه .. وتراجعت عدة خطوات الي الخلف .. وهي تجول بنظرها في أرجاء الغرفة المهتزة

___رحلة___

فور أن قرأت زمرد تلك الكلمة (أسْمَنْجُون) .. حتى تحولت أوراق الكتاب في يدها الي اللون الأسود وبدأت الأرض تهتز من تحت قدميها بقوة .. فنهضت من على الكرسي الذي تجلس عليه وتراجعت عدة خطوات الي الخلف وهي تجول بنظرها في أرجاء الغرفة المهتزة

من شدة الاهتزاز سقط الكتاب على الأرض محدثا دويا مهيبا كاد ينخلع قلب زمرد بسببه ثم ظهر من تحت الكتاب دوامة سوداء ضخمة .. يتخللها بعض الخطوط الارجوانية والزرقاء والحمراء متداخلة معا في تناسق مبهر ومخيف في نفس الوقت .. ابتلعت الدوامة زمرد التي لم تجد وقتا لتذهل بما يحدث على الأقل وبعدها أُغلقت الدوامة وظل الكتاب في مكانه على الأرض لعدة ثواني لم تلبث حتى اشتعلت النار فيه وتحول الي رماد كأن شيئا لم يكن وعم الهدوء أركان الغرفة مجددا

ظلت زمرد تدور في دياجير الدوامة حتى فقدت وعيها وبعد فترة وجيزة .. أستقر جسدها في هدوء على الأرض وظلت فاقدة للوعي لعدة ساعات

استيقظت زمرد بعد عدة ساعات وهي تشعر بالدوار وآلام حادة في كتفيها وساقيها .. ولكن ما رأته أمام عينيها كان كفيلا بأن ينسيها الألم في جسدها

فتحت زمرد عينيها في ذهول شديد وهي تحدق في الأفق حولها وتقول : لا أصدق ما أرى .. هل أنا في الصحراء ؟ ؟

كان هذا ما رأته فعلا حولها .. ملايين الكيلومترات من الرمال الذهبية تمتد في الآفق من جميع الإتجاهات .. ظلت تركض في الأرجاء لا تصدق ما يحدث

زمرد : كنت في غرفتي منذ قليل .. كيف جئت الى هنا هكذا ؟ ما الذي يجري ؟

واستمرت زمرد في الركض باحثة عن أي شئ حولها لكنها لم تقابل في طريقها سوى الصحراء الذهبية الشاسعة والشمس الحارقة فوق رأسها

وبعد أن أرهقت زمرد نفسها من الركض دون جدوى جلست على الأرض بجبين يتفصد عرقا تلتقط أنفاسها وقد بدأت آلام ساقيها وكتفيها تعودان مرة آخرى

نظرت الي السماء الصافية فوقها .. وهي تمسح قطرات العرق من على جبينها حائرة تائة لا تعرف ماذا عليها ان تفعل الآن

حينها قَطَع حبل أفكارها صوته القَمئ وهو يصرخ عليها بلكنته الغريبة قائلا : كيف وصلت الي هنا ؟ وكيف قمت بفك أغلالك ؟

نظرت زمرد الي صاحب الصوت .. لترى رجلا قبيحا قصير وسمين ذا رأس أصلع وعينان قاسيتان وكان يرتدي ملابس رمادية غريبة الشكل تشبه في تصميمها الي حد ما  ثياب الرومان قديما فسألته قائلة : من أنت ؟ وأي أغلا……

لم يعط الرجل القبيح الفرصة لها لتكمل كلامها وقام بجذبها بعنف من زراعها فآلمت تلك الجذبة كتفها بشدة أطلقت بسببها صرخة ألم بصوتها الشجيّ تقطع قلب من سمعها .. ولكن الرجل القبيح لم يكترث لألمها وأستمر في جرها خلفه وهو يردد كلمات لم تفهم زمرد كنهها وظل يجرها خلفه لمسافة ليست طويله.. وهي لا تقوى علي المقامة حتى وصل الي عربة خشبية ضخمة تشبه السجن وبداخلها الكثير من النساء والرجال والأطفال مقيدي الأيدي والأرجل بسلاسل عملاقة وكان هناك ثلاثة أحصنة مربوطة في مقدمة العربة ويجلس بجانب الأحصنة رجلين آخرين قبيحين أحدهما طويل ونحيل كعصى خشبية ذا شعر اجعد طويل .. والأخر متوسط الطول والحجم بشعر قصير.. كان الرجلين وجميع من في العربة يرتدون ملابس تشبه ملابس الرجل السمين في الشكل واللون

من هذه ؟

قالها الرجل الطويل بصوت يشبه الصرير فأجابه الرجل السمين بصوته القمئ : عندما ذهبت لأقضي حاجتي بعيدا وجدتها تحاول الهرب .. يبدو أنها فرت من العربة عندما أخرجناهم منذ قليل لنصلح العجلات المكسورة

الرجل الطويل : كنا سنقع في مشكلة كبيرة لو تمكنت من الهرب

الرجل الثالث : من الجيد أنك تمكنت من القبض عليها .. أحسنت صنعا

الرجل السمين : لكنها تمكنت من فك القيود

الرجل الثالث : لا بأس لدينا المزيد منها هنا .. خذ واحدا آخر وقيدها به

زمرد : لحظة من فضلكم .. أنا لم أهرب من هنا .. انا لم اكن معهم أساسا

الرجل الثالث : اذا من تكونين ؟ ومن أين أتيت ؟

زمرد : أنا زمرد وفي الحقيقة أنا من .. في الحقيقة

كانت زمرد لا تدري أين هي ؟ ولا كيف أتت الي هنا ؟ ومن هؤلاء ؟ وماذا يفعلون ؟ لذا لم تعرف بماذا تخبرهم

الرجل السمين : إن كنت لا تعرفين كيف تكذبين فلا تحاولي إذا .. لقد هربت من هنا وقد أعدناك ولحسن حظك سنكون طيبون معك ولن نبلغ عن هذا .. اذا علم أحد عن محاولتك للهرب فقد تعاقبين أو حتى تُقتلين

زمرد : قُلت أنني لست منهم

الرجل الثالث : يكفي كذبا حتى الآن الدليل القاطع موجود على يدك .. فلماذا تكذبين ؟

-لم تفهم زمرد عن أي دليل هذا الذي يتحدث عنه .. فتابع الرجل الثالث قائلا : لا يوجد أحد يحمل تلك الجوهرة الا إذا كان فردا من عمال أسمنجون العظمى وبما أنكم اصبحتم منهم الآن فقد ظهرت الجوهرة في أيديكم

تابع الرجل السمين بدون ترك أي فرصة لزمرد لكي تستوعب ما قاله الرجل الآخر : هيا كفى عبثا لقد ضيعنا الكثير من الوقت بالفعل

ثم قام بتقيد قدمي زمرد ويديها الرقيقتين وقام بدفعها بيده الغليظة الي داخل العربة الخشبية وأغلق الباب خلفها ثم بدأوا في التحرك متجهين الي مكان ما لا تعرف زمرد ما هو !؟

كانت زمرد تجلس في العربة الخشبية لا تدري ماذا يحدث من حولها ولا ما ينتظرها لاحقا

بدأت تنظر الي ظهر يديها المقيدتين بالأغلال الضخمة التي آلمتها فلم تجد أي شئ أي دليل هذا الذي تحدث عنه هذا الرجل ؟.. وعندما أدارت يديها وفتحتهما صدمت بما رأت في يدها اليسرى

كان هناك حجر كريم بيضاوي الشكل -عرفته زمرد فقد قرأت عن الأحجار الكريمة سابقا- إنها جوهرة من التوباز الزرقاء مغروسة داخل يدها متصلة تماما بجلدها من الحواف وكأنها جزء منه وكان لها بروز قليل من المنتصف ويحيط بالجوهرة نقش لازوردي لنجمة خماسية الرؤوس .. كان شكل الجوهرة جذاب للغاية مع كل تلك الإنعكاسات اللامعة التي أحدثتها عندما سقطت على سطحها أشعة الشمس البرّاقة

أستمرت العربة بالسير .. حتى أنشق فراغ الأفق كاشفا عن مدينة ذات أسوار شاهقة ناصعة البياض مزينة بأحجار كريمة زرقاء عملاقة

إنها مدينة الأحجار الكريمة ( أسْمَنْجون ) العظيمة

____أسْمَنْجون____

(اسمنجون تعنى اللون الأزرق الخفيف كلون السَّماء ولون البنفسج)

إنها مدينة الأحجار الكريمة أسْمَنْجُون العظيمة

قالها شيخ كبير من الجالسين داخل العربة مع زمرد بصوته المجهد المتعب فأجابته زمرد بسؤال : وما هي أسمنجون هذه ؟

الشيخ : ألا تعرفين أسمنجون يا ابنتي ؟

زمرد : بلا .. لم اسمع بها من قبل

الشيخ : إنها أعظم البلاد في هذا العصر كيف لم تسمعي عنها من قبل ؟ إنها أغنى البلاد على الإطلاق تتاجر في الذهب والمجوهرات .. وتشتهر بأحجارها الكريمة التي لا مثيل لها في العالم .. وهي من أقوى البلاد عسكريا .. جميع المدن تهابها

زمرد : لحظة واحده .. كيف تكون كما قلت ولم يسمع بها أحد ؟ لم أقرأ شيئا عنها من قبل

الشيخ : ربما لم تسمعي أنت بها ولكن جميع من يعيش في الإمبراطورية الآشورية قد سمع بها بالفعل

فور أن سمعت زمرد كلمة المملكة الآشورية غرت فاها وأتسعت عيناها وقالت والرعشة تسري في ظهرها : أي (إمبراطورية آشورية) تلك ؟ هل تقصد أننا في القرن التاسع قبل الميلاد ؟ ما الذي جاء بي الي هنا ؟

الشيخ : أي ميلاد ؟

كانت زمرد لا تصدق أنها تقف على أرض الإمبراطورية الآشورية التى قرأت كثيرا عنها وعن تاريخها القديم العريق منذ مئات السنين .. تلك الإمبراطورية التي نشأت في ما بين النهرين.. وأستمرت منذ سنة 934ق.م وحتى سنة 609ق.م نافست تلك المملكة كلا من بابل وعيلام ومصر على زعامة العالم القديم .. وأصبحت بمجئ تغلاث فلاسر الثالث أقوى إمبراطورية في العالم القديم بعد ان تمكنت من الإنتصار على هذه الممالك

وفي خضم هذا التخبط الذي وقع فيه عقل زمرد وصلت العربة الي بوابة المدينة كانت بوابة ضخمة داخل سور عملاق يصل ارتفاعه الي مائة متر وسمكه ما يقرب من العشرين متر وكانت مساحته حوالى خمسة آلاف كيلومتر مربع تقريبا .. يحيط بمدينة أشبه بمملكة كاملة بداخله من ثلاثة جوانب .. أما الجانب الرابع فقد أحاط به سلسلة من الجبال العملاقة التي لا يمكنك رؤية قممها .. وكان للسور أربعين برج مراقبة وتسع بوابات ولكل بوابة بابين حديديين أحدهما عند بداية السور من الخارج .. والآخر عند نهايته من الداخل ويقف في تلك المسافة بين البابين ما يقارب العشرة حراس بدروعهم وسيوفهم المصقولة .. وهناك شعل نارية مثبته على الجدران .. فوق الحراس لتضئ المكان

أخرج الرجل السمين ورقة صفراء وأعطاها الي أحد الحراس عند الباب الخارجي .. فسمح له بالمرور متجها الي المدينة داخل السور

وفور عبور العربة الخشبية سور المدينة المظلم نسبيا وظهور أشعة الشمس من جديد بدأت معالم الحياة تظهر أناس تتحرك هنا وهناك.. وأطفال تلعب.. وحراس تهرول .. خيول وثيران تجر خلفها عربات خشبية .. بدى المكان حيويا للغاية .. وكانت المنازل الصغيرة والكبيرة متراصة بجانب بعضها البعض في نظام وهندسية دقيقة للغاية .. كما زينت اسقف تلك المنازل بالأحجار الكريمة الزرقاء المختلفة في الحجم وكانت النوافير العملاقة بيضاء الهيكل والتي كانت مرصعة بالجواهر الزرقاء هي الآخرى توضع في أرجاء المكان بنظام .. كأن التناسق والجمال في تلك المدينة جعلها جزء لا ينتمي للأرض

سارت العربة التي كانت تحمل زمرد والآخرين بمحاذاة السور لبعض الوقت حتى وصلت الي مبنى كبير حجري

كئيب فتوقفت عنده ثم خرج بعض الجنود من داخل المبنى وبدءوا بإخراج الناس من العربة وادخالهم الي هذا البناء

سار الجميع معا في مكان واسع كان على جانبيه طاولات خشبية يجلس عليها عدد من الجنود وفي أخره باب خشبي في جدار .. وكان خلف الباب نفق طويل يصل الي آخر البناء على جانبية العديد من الزنزانات المتراصة لا يفصل الزنزانة عن أختها إلا قضبان حديدية كالتي أغلقت بها كل زنزانة منها .. كان المكان كريه الرائحة ومظلم للغاية إلا شئ من أشعة الشمس التي عبرت من تلك النوافذ الصغيرة أعلى الجدران العالية

قام الجنود بإدخال الرجال في زنزانات منفصلة عن النساء والأطفال ومنهم زمرد المسكينة التي لا تدري ماذا يحدث من حولها حتى أنها حاولت أكثر من مرة أن تتحدث مع الجنود ولكن لم يستجيب أحد لها بل قام أحدهم بدفعها بقسوة سقطت بسببها على الأرض وخدش باطن كفيها حتى خرج بعض الدم من جلدها

أغلق الجنود أبواب الزنزانات ثم خرجوا من تلك الردهة الكبيرة الي الخارج وأغلقوا الباب الخشبي بإحكام تاركين مئات الأسرى خلفهم في زنزانات مخيفة موحشة

جلست زمرد مكانها مسندة ظهرها الي الجدار خلفها .. وضمت ساقيها الي صدرها وأحاطتهما بذراعيها واضعة رأسها على ركبتيها وأغلقت عينيها الزمرديتان .. وغاصت في بنات أفكارها تحاول جمع شتات نفسها والوصول الي حل لما يحدث معها .. حتى ملت من التفكير بدون الوصول لشئ

بعد توقف زمرد عن التفكير انتبهت الي صوت رقيق لبكاء فتاة جلست معها في نفس الزنزانة فاقتربت منها وأخذت تربت على ظهرها ثم سألتها عن سبب بكاءها فأجابت الفتاة بصوت أرهقه البكاء : لقد انتهى أمرنا وسنظل عبيد للأبد

زمرد : ماذا تقصدين بأننا أصبحنا عبيد ؟

الفتاة : ما هذا !!.. هل أتيتِ الي هنا وأنت لا تعرفين ماذا سيفعلون بكِ ؟

زمرد : أجل .. هل يمكنك إخباري بما يحدث رجاءً ؟

الفتاة : نحن رهائن الديون

زمرد : رهائن !؟

الفتاة : أجل رهائن

قامت الفتاة بمسح دموعها ثم أردفت قائلة : إن أسمنجون مدينة فاحشة الثراء تقوم بإعارة المال للمدن الآخرى المحتاجة .. وعلى تلك المدن إعادة المال لها على سنوات تحدد بين البلدين .. ولكن في حال لم تستطع المدينة إعادة المال في الوقت المحدد يأتي فقراء المدنية الي أسمنجون كمتطوعين لخدمتها مقابل هذا الدين .. أو هذا ما يتداول في العلن أما الحقيقة هي أن المدن الدائنة تجبر فقراءها وترغمهم على الذهاب الي أسمنجون كرهائن .. ولم يعد الي الآن أي شخص من هؤلاء الفقراء الي داره مرة آخرى

زمرد : قد يكون هؤلاء الناس قد أحبوا البقاء هنا بدلا من العودة فقد سمعت أن أسمنجون من أعظم البلاد

الفتاة : هذا مستحيل فلم يسمع أحد أي خبر من قريب له جاء الى أسمنجون .. كما أن هذه السلاسل حول أيدينا هي أكبر دليل على أنهم سيقومون باستعبادنا

صمتت الفتاة هنيهة ثم أردفت والدموع تسيل على وجنتيها ثانيةً : لقد تخلت مدننا عنا .. ولا أمل لنا بحياة كريمة بعد الآن

زمرد : حتى لو تخلى العالم كله عنا فإن الله معنا لن يترك ابدا داعٍ محتاج في كربة بدون عون فهو القويّ الرحيم .. فلا تخافي

الفتاة : لم أفهم

ابتسمت زمرد وربتت على ظهر الفتاة تطمئنها ثم قالت : لا بأس عليكِ .. سنكون بخير

عم الصمت المكان وعادت زمرد الى تقوقعها .. ومر الوقت وهي لا تفكر إلا في المحادثة السابقة.. لا تتوقف عن تخيل ما سيحدث لها في المستقبل داخل تلك المدينة العجيبة .. حتى خارت قواها وإستلقت على الأرض.. لم يعد بوسعها الصمود أكثر فجسدها يؤلمها إثر الرضوض التي أصيبت بها داخل الدوامة السوداء وجروح كفيها تؤلمها وتلك السلاسل حول معصميها وساقيها التي أهلكت جلدهما كما انها لم تأكل شيئا طوال اليوم وتشعر بالعطش الشديد جراء تلك الرحلة الشاقة تحت الشمس الحارقة

حل الليل وأصبحت الزنازين أكثر زمهريرا كانت زمرد ترتجف من شدة البرد فلم تكن معتادة على صقيع كهذا طوال حياتها كما أن الأرض التي كانت مستلقية عليها شديدة البرودة هي الآخرى حاولت الصمود ولكن الوهن  تمكن منها فخرت مغشي عليها

____أيلا____

تسللت احدى الرشيقات من أشعة الشمس من خلال النافذة وداعبت عيني زمرد النائمة فأيقظتها .. فتحت الفتاة عينيها لتجد نفسها في سريرها الدافئ داخل غرفتها الهادئة وصوت طهي والدتها للطعام صادر من المطبخ

زمرد : يا إلهي .. حلم ؟ لقد كان بشعا جدا

هرولت الفتاة في حبور لتفتح باب غرفتها .. وفور أن فتحته تحول المكان حولها الي ظلام حالك … قطعه ركلة شديدة في كتفها وصوت جهوري يحدثها : الي متى ستظلين نائمة ؟؟

فتحت زمرد عينيها وجالت بنظرها في المكان فهربت من عينيها دمعة عندما أدركت ما هو الواقع وما هو الحلم عندما أدركت أنها لا تستطيع أن ترتمي في أحن صدر في العالم كما تمنت

تابع الجندي الغليظ قائلا : هيا .. فلينهض الجميع .. عليكم بدأ العمل من اليوم .. تحركوا بسرعة

ثم نظر الي زمرد وقال : وأنتِ عليك أن تبدلي ثيابك الغريبة تلك

لم تجبه زمرد ولم تتحرك قيد أنمله من مكانها فقد كان قلبها منكسر وطرفها حائر .. فقام الجندي بجذبها من السلاسل في يدها وقام بجرها جرا خلفه حتى خرجت من الزنزانة وقامت سيدة أربعينية بأخذها لتغير ثيابها

قامت زمرد بتغير ملابسها بملابس أهل المدينة التي كانت شئ كعباءة طويلة ذات أكمام واسعة وعليها شئ كملاءة .. تقوم بلفها حول جزعها وتمررها من تحت أحد ذراعيها .. رافعة إياها لتمر من فوق كتف ذراعها الآخرى .. ولكن زمرد لم تكن تريد أن ترتدي مثل تلك الملابس فهي تكشف شعرها .. ترددت كثيرا حتى رأت بعض النساء يرفعن الملاءة على رؤوسهن بدلا من وضعها على كتفهن ففعلت مثلهن وغطت شعرها

انضمت زمرد الي الجمع الكبير الذي احتشد في الساحة أمام مبنى الزنازين وقد وقف أمامهم جندي ضليع وسيم ممشوق القوام مفتول العضلات كان يرتدي عباءة ناصعة البياض الي ركبته وملاءة بلون أسمنجوني .. وعلى خصره علق سيفه المرصع بالجواهر ووقف على يمينه ويساره جنديان يرتديان نفس الثياب بألوان معكوسة الأسمنجوني للعباءة والأبيض للملاءة وعلى ظهرهما أقواس وسهام

قال الجندي بصوته الجهوري : أدعى ليڤون (بمعني الأسد) وأنا قائد الجيش الأسمنجوني الذي يدافع عن أمن المملكة أسمنجون داخليا وخارجيا .. وجئت اليوم لأرحب بكم بالنيابة عن الملكة ( سيرا ).. أخبركم أنكم من اليوم قد أصبحتم جزء من أسمنجون .. ستظلون هنا حتى ينتهي دين بلادكم بعدها يمكنكم العودة الي أهلكم مرة آخرى أما قبل هذا فلا يمكنكم عبور سور المدينة ابدا وفي تلك المدة التي ستبقون فيها هنا سيتكفل المسؤولين عنكم بكل احتياجاتكم وسيقومون بمعاملتكم بشكل حسن

قلّب ليڤون عينيه العسليتان بين الوجوه المتجهمة ثم أشار الي بعض الرجال الواقفين خلفه والتي كانت جميع ثيابهم رمادية ثم أردف قائلا: هؤلاء الرجال هم من سيتولون أمركم في المدة التي ستبقون فيها هنا .. ستقسّمون الي مجموعات متفرقة .. كل مجموعة في عمل مختلف يشرف عليها أحد الرجال

صمت هنيهة ثم أردف : وأتمنى لكم الحظ الجيد في أسمنجون

نظر ليڤون الي الجنديان خلفه ثم أنطلق ثلاثتهم مبتعدين تاركين الجمع بين أيدي هؤلاء الرجال

قام الرجال بتقسيم الناس الي مجموعات متعددة كل مجموعة صحبها واحد منهم وبدأوا يتفرقوا وينتشروا في أرجاء المدينة وكان من صحب زمرد ومن معها رجل طويل القامة عريض المنكبين أصلع الرأس.. أسمرت بشرته بسبب عمله في الشمس طويلا وظهر على ملامحه علامات القسوة والبأس .. قام باصطحابهم الي عربة كبيرة قاموا بالصعود إليها

تحركت العربة وسارت لمسافة كبيرة جدا طوال النهار حتى وصلت الي الجبال العملاقة التي اختلفت ألوان حجارتها من الأبيض الي الأسود مرورا بالأحمر والذهبي توقفت العربة أمام مبنى كبير للغاية وطلب الرجل من الجميع أن يترجلوا من العربة ففعلوا .. ثم اصطفوا ليقف الرجل الفتيّ أمامهم ويقول بصوته الجهوري : هنا ستعيشون هذا مسكن الرجال أما النساء فلهن مبنى منفصل خلف هذا المبنى .. ستحصلون هنا على وجبتين يوميا ومكان للنوم

ثم أشار الي الجبال التي بعدت عنهم بمسافة ليست كبيرة ثم أردف: وهناك ستعملون .. نحن نستخرج الأحجار الكريمة من جبال أسمنجون العظيمة وستقومون بالمساعدة في هذا.. الرجال ستساعد في تحطيم الصخور وإستخراج الجواهر … أما النساء ستساعدن في تنظيفها وإعدادها للبيع في المصنع بجانب الجبال .. وليس لديكم مجال للتكاسل وإلا ستعاقبون .. هل كلامي واضح ؟

قام الرجل بإصطحاب الرجال الي الجبال بينما صحبت النساء امرأة طويلة القامة قاسية الملامح قوية بشكل لا يلائم امرأة .. توجهوا جميعا الي بناء كبير بني من طوب نحاسي اللون وقد بدى على ملامحه علامات القدم.. دلفوا الي المبنى وولجوا الي أحدى الغرفات الكبيرة

جالت زمرد بعينيها في المكان كان هناك العديد من الطاولات الخشبية الكبيرة .. وأمام كل طاولة العديد من الصناديق المعدنية بداخلها العديد من الأحجار الكريمة المختلفة وتجلس على كل طاولة امرأة أو اثنتين تقوم بتنظيف المجوهرات من بقايا الصخور والرمال وفرزها .. كل نوع في صندوق منفرد

جلست زمرد هي الآخرى على إحدى الطاولات وبدأت تعمل كباقي النساء عندما قاطعها صوت رقيق لفتاة تقول لها: ها نحن نلتقي ثانيةً .. يا ذات العيون الجميلة

رفعت زمرد عينيها فوجدت فتاة ذات شعر طويل شديد السواد وعيون بنية داكنة -كانت تلمع تحت أشعة الشمس- التي إنعكست على وجهها الصغير الوردي قالت الفتاة مرة آخرى وهي تطالع زمرد بنظراتها المتفحصة : تبدين أجمل مما تصورت .. لم أتمكن من رؤيتك جيدا في الظلام ولكن بعد رؤيتك في النور هكذا تبدين فاتنة للغاية

زمرد : أنا أتذكر صوتك .. هل يمكن أنك تلك الفتاة من الأمس ؟

الفتاة : هذا صحيح كنت معك في تلك الزنزانة

صمتت الفتاة هنيهة ثم أردفت: اسمي أيلا سررت بلقائك ثانيةً أيتها الجميلة

ارتسمت علي شفتي زمرد إبتسامة رقيقة ثم قالت : غزال

أطلقت أيلا ضحكة خافتة وقالت: هذا صحيح اسمي يعني غزال

زمرد : وأنا زمرد .. وهو نوع من الأحجار الكريمة الخضراء

أيلا : لا عجب أن عيونك بهذا الجمال يا زمردة

ابتسمت زمرد ابتسامة واسعة فقد اعجبها نداء أيلا لها بزمردة .. شعرت بشئ من الدفئ فيه بعد كل المتاعب التي تعرضت لها بالأمس

قطع حديث الفتاتين صوت محشرج لامرأة قاسية والتي كانت تشرف على عمل الإناث داخل المصنع : كفى عبثا وتابعا العمل وإلا سيتم معاقبتكما

نظرت الفتاتان لبعضهما وابتسمتا ثم عادت كل واحدة لعملها مرة آخرى

وبعد حلول المساء والإنتهاء من العمل توجه الجميع الي المباني التي سيباتون ليلتهم فيها اتجهوا جميعا الي مطعم المبنى حيث سيحصلون على عشائهم هناك وكان ذلك أول طعام يدخل معدة زمرد منذ وصولها الي هذا العالم الغريب ولكنه لم يكن طعاما يمكن لآدمي تناوله .. قطعة خبز صلبة مع صحن من حساء الخضروات وكوب من الحليب موضوعين في صحون وأكواب قذرة

تناولت زمرد بعضا من الخبز فقط ولم تستطع تناول شئ آخر فقد إشمئزت نفسها من مظهر الطعام السئ.

نهضت زمرد متجهة الي غرفتها في المبنى المكون من عدة طوابق وكان في كل طابق الكثير من الغرف المرقمة يمينا ويسارا.. دخلت الي غرفتها في الطابق الثالث عندها فوجئت بايلا جالسة على أحد الأسرة الكثيرة المتراصة بجانب بعضها البعض لا يفصل بين كل سرير والآخر سوى دولاب خشبي قصير به ثلاثة أدراج وستارة

نظرت زمرد إليها بإندهاش وقالت : أيلا !!.. هل ستمكثين في هذه الغرفة أنت أيضا ؟

أيلا : أجل

ابتسمت أيلا ثم أردفت : يبدوا أنه مقدر لنا البقاء معا في تلك المدينة

زمرد : معك حق

مر يوم كان شاقا على زمرد فهي لم تعتد على عمل مثل هذا من قبل وأصيبت أطراف أصابعها ببعض الخدوش من الصخور أيضا ولكن حصولها على صديقة جديدة خفف عنها بعض الألم والوحدة التي شعرت بها

____إحتفال____

مرت الأيام المتشابهة تباعا أيام تمضي بلا عودة وزمرد ماتزال حبيسة هذا العالم وتلك المدينة حتى أتي أحد الأيام مختلف الملامح عن أخوته .. تم إلغاء جميع الأعمال وإجتمع الناس في الشوارع المزينة بالأشرطة الملونة وقد عزفت فيها الموسيقى.. لقد كان الجميع يحتفل بعيد ميلاد الملكة سيرا التي أتمت الأربعين من العمر

ترك العاملين في ذلك اليوم بدون عمل وسمح لهم بالتجوال بحرية تامة في أرجاء المدينة بشرط عدم تجاوز سورها الخارجي

خرجت زمرد مثل باقي زميلاتها في العمل لتتجول في المدينة وتجوب أرجائها عندما سمعت صوتا ينادي عليها من خلفها : زمرد انتظري

زمرد : أيلا !! ماذا تفعلين ؟

قالت أيلا بصوت متقطع الأنفاس : خذيني .. معكِ

زمرد : تبدين متعبه جدا .. ماذا حدث معكِ  ؟

أيلا : أنت سريعة للغاية .. لقد أتعبتني وأنا أحاول اللحاق بكِ

زمرد : أعتذر منكِ .. إنها عادتي السير بسرعة

أيلا : لا بأس .. إذا الي أين ستذهبين ؟

زمرد : لا يوجد مكان محدد أتوجه إليه .. فقط أتجول

أيلا : إذا دعينا نتجول معا

زمرد: لا بأس بهذا .. هيا بنا

أستمرت زمرد وأيلا في التجوال في أرجاء المدينة حتى وصلتا الي قصر الملكة والذي كان في مركز المدينة .. وقد احتشد حوله العديد من الناس .. وبعد عدة دقائق خرجت الملكة الى شرفة القصر على يمينها رئيس الوزراء وعلى يسارها الوسيم الجَسور ليڤون قائد الجيش الأسمنجونيّ.

أطلت الملكة ترفل في ثوبها الأبيض وقد تزينت بحليّ من الزفير الأزرق وزين شعرها الفحميّ تاجها الذهبي المرصع بالجواهر الملونة وفور ظهرها بدأ الناس بالهتاف لتحيتها بحرارة

تقدمت زمرد وسط الزحام الشديد متجهة للصفوف الأمامية أرادت أن ترى الملكة عن قرب وتستمع الى ما ستقوله .. رفعت الملكة يدها فتوقفت الهتافات تدريجيا حتى صمت الجميع .. نظرت الملكة الي وجوه شعبها ثم قالت بصوتها الأغن : أريد أن أشكر كل فرد منكم لقدومه خصيصا للإحتفال بعيد مولدي الأربعين وكتقدير منى لجهودكم سأقوم بتقديم الهدايا الى كل من يعيش داخل مملكتي

فور قول الملكة لكلماتها هذه علا الهتاف والتصفيق والموسيقى وعم الفرح المكان

إنها تحب التفاخر حقا

سمعت زمرد هذه الكلمات على لسان شاب بصوت يخنقه الضيق وعندما نظرت إليه صرخت صرخة لفتت الأنظار إليها فوضعت يديها على فمها وظلت تحدق به في إرتباك.. إنه ذلك الشاب الذي رأته في مكتبة السيد بهاء والذي أعطاها الكتاب الغريب

نظر الشاب إليها بتعجب ثم استدار وهم بالرحيل فحاولت اللحاق به ولكنها لم تستطع هذا بسبب الزحام الشديد الذي محى وجوده من أمام ناظريها

خيم الليل بردائه البهيم وماتزال أفكار زمرد تتناطح داخل رأسها هذا الشاب الغريب لابد أنه يعرف شيئا عن كيفية عودتها الى بيتها ولكن كيف يمكنها إيجاده الآن في هذه المدينة العملاقة  ؟.

مر يوم الاحتفال ولم ينم لزمرد جفن فقد ظلت مستيقظة طوال الليل تفكر في هذا الشاب الغريب الذي ألتقت به بالأمس .. وظلت الأسئلة تطرح نفسها عن طريق الخروج من هنا .. وما الذي سيحدث في المستقبل؟ وماذا إن لم تتمكن من العودة للبيت ؟ والكثير من الأسئلة الآخرى التي  ظلت معلقة بدون أي جواب

أنت … ستأتين معي

قالتها السيدة القاسية بصوتها المرتفع .. والتي كانت تدعى باسم جومرا الذي يعني الجَمر

زمرد : أنا !! الى أين ؟

جومرا : الى الصائغ

زمرد : لماذا  ؟

جومرا : لكي نعطيه ما تم استخراجه من جواهر

زمرد : لم أقصد هذا .. كنت أعني لماذا اخترتني أنا ؟

جومرا: لديك الكثير من الأسئلة حقا أنا لا أحب هذا النوع من الفتيات .. اتبعيني في صمت

تبعت زمرد السيدة جومرا وقامت بمساعدتها في وضع الصناديق المليئة بالأحجار الكريمة في عربة خشبية بدون سقف يقودها حصان متعب

وصلت السيدة جومرا ومعها زمرد الى حانوت صائغ الجواهر السيد هيرمان اخذتا الصناديق ودخلتا الي الحانوت

هيرمان : مرحبا بالسيدة جومرا .. يبدوا أن لديك الكثير من الصناديق هذا اليوم

جومرا : أجل فالعمل يسير على قدم وساق بعد حفل ميلاد الملكة

هيرمان : ما هذا !! أين الفتاة التي كانت تساعدك دائما في إحضار الصناديق الي هنا ؟

جومرا : مريضة ولم تتمكن من المجئ اليوم لذا أحضرت فتاة آخرى لمساعدتي

هيرمان : تبدو ذكية

جومرا : لا أعتقد ذلك

غضبت زمرد بشدة عندما قالت السيدة جومرا ذلك عنها وكانت ترمقها بنظرات حادة .. قطع ذلك الجو صوت فتح الباب تلاه صوت مألوف لشاب يقول : مرحبا سيد هيرمان .. لقد عدت إليك مرة آخرى

هيرمان : عزيزي ليڤون أهلا بعودتك .. كيف يمكن أن أساعدك ؟

وقف ليڤون في مكان بعيدا عن زمرد .. وأمسك بسيفه في غمده ووضعه على الطاولة أمام السيد هيرمان ثم قال : إنها الجوهرة مرة آخرى لقد كسرت عندما كنت أبارز بسيفي

نظرت زمرد الى الجوهرة وقالت بصوت خافت: الجاديت

هيرمان : هذا صحيح إنه الجاديت.. يبدوا أنك تعرفين الكثير.

(الجاديت هو حجر كريم يشبه الزبرجد ولكنه أصفى منه ويرجع تاريخ استخدامه الى 6000 ق.م في الأسلحة والأدوات بسبب شدة صلادته كما أنه يعد من الأحجار الإمبراطورية في الثقافة الصينية)

لم تجبه زمر ولكن فور اقتراب ليڤون منها عدة خطوات ليخاطب السيد هيرمان اتسعت حدقتاها وغرت فاها وظلت تحدق به بنظرات جمعت بين الدهشة والصدمة والتوتر والخوف دون ان تعير من حولها أي إهتمام

هيرمان : أخبرتك مائة مرة أن تأتي بين الحين والآخر لفحص سيفك .. جوهرتك نادرة للغاية فلا تتركها بدون عناية حتى تكسر هكذا

ليڤون : سأحاول في المستقبل

هيرمان : ها هي ذي جملتك التي حفظتها منك

كان ليڤون يعرف أن زمرد تنظر إليه منذ وقوفه بجانبها فقد لمحها بطرف عينه ولكنه كان يتجاهلها حتى قال أخيرا : المعذرة

ألتفت ونظر إليها ثم أردف قائلا : هل هناك شئ ما على وجهي ؟ كنت تحدقين فيه منذ مدة طويلة

لم تجبه زمرد وأستمرت بالتحديق به حتى جذبتها السيدة جومرا من زراعها بقوة فعاد لزمرد وعيها بعد تلك الجذبة .. ثم وجهت السيدة جومرا كلامها الي ليڤون قائلة في إرتباك : أرجوا المعذرة منك يا سيدي القائد .. تلك الفتاة مستجدة هنا ولا تعرف كيف تظهر الاحترام اللازم الي من هم أعلى مرتبة

نظر ليڤون الي السيدة جومرا ثم أعاد نظره الي زمرد الواقفة في ذهول وابتسم فكشف اللثام عن أنيابه الحادة وأسنانه اللؤلؤية البيضاء ثم قال : لا بأس .. تبدوا الفتاة مرتبكة بالفعل

أحمر وجه زمرد خجلا من إبتسامة ليڤون الجميلة فوجهت نظرها الي الأرض ولم تعاود النظر إليه ثانية ً

خرجت السيدة جومرا ومعها زمرد من حانوت الصائغ .. ثم نهرت جومرا زمرد قائلة : يالك من فتاة وقحة لقد قمتي بإحراجي بشدة أمام القائد الأعلى ليڤون ليتني لم أصحبك معي الي هنا .. توقعي أن عقابك سيكون شديداً

*****

قال ليڤون الي الجندي الواقف علي يمينه فور خروج زمرد من الحانوت : إنها تلك الفتاة ثانيةً .. هل تذكرها ؟

الجندي: وهل ألتقينا بها من قبل ؟

ليڤون: أجل .. عندما ذهبنا لنرحب بالعمال الجدد من المدن المجاورة .. كانت واقفة وحدها في نهاية الجمع وعلى وجهها نظرة حزينة

الجندي : ومازلت تتذكرها !؟

ليڤون : أجل تلك الفتاة تمتلك ملامح مختلفة عنا .. كما أن لون بشرتها ليس طبيعيا.. ولون عيونها جميل للغاية لقد لفتت إنتباهي لكن هذه أول مرة أراها عن قرب .. لا أعرف سبب تحديقها بي اليوم ولكن…..

ابتسم ثم أردف : ولكنها فتاة لطيفة حقا

الجندي : ماذا تقصد بهذا يا سيدي القائد !؟

ليڤون : لا تشغل بالك .. إذا يا سيد هيرمان كم سيستغرق إصلاح جوهرتي ؟

هيرمان : لن يستغرق الكثير من الوقت .. لا تقلق

*****

كانت العربة الفارغة تهتز من سيرها على الطريق المتعرج وزمرد جالسة بجانب السيدة جومرا وعقلها مازال داخل الحانوت تفكر في ليڤون .. ثم بدأت تتمتم بصوت غير مسموع وتسأل نفسها : ما سبب تلك الرائحة العطرة التي كانت تنبعث منه ؟ إنها نفس الرائحة التي كانت تنبعث من الصفحات الأخيرة من الكتاب الغريب الذي كنت اقرأه قبل مجيئي الي هنا .. ولكن لماذا  ؟

ظل السؤال معلقا بلا جواب وزمرد تكاد تجن مما يحدث من حولها أولاً الكتاب الغريب ثم هذا المكان العجيب الذي حبست فيه ثم الشاب المريب الذي رأته هنا ثانيةً والآن القائد ليڤون .. حتى هو أيضا قد ظهر في الصورة .. كلها أسئلة بدون جواب

في هذا اليوم باتت زمرد ليلتها بدون عشاء .. فقد كانت السيدة جومرا تعاقبها على احراجها إياها أمام ليڤون.

لتكملة القصة اضغط الزر بالاسفل