مقابل 25 ألف دولار.. بادر بحجز قبرك على المريخ

بينما تنشغل وكالات الفضاء العالمية بإطلاق الصواريخ، واستكشاف العوالم البعيدة، ظهر اتجاه جديد يثير الدهشة والفضول معًا: حجز قبر على كوكب المريخ. نعم، الأمر ليس عنوانًا لفيلم خيال علمي، بل مشروع حقيقي تقدمه شركات فضاء ناشئة تستغل التطور التكنولوجي وسباق الاستعمار الفضائي لتقديم خدمة غير مسبوقة: مكان لدفن بقاياك أو رمادك أو حتى بصمتك الوراثية على سطح الكوكب الأحمر، مقابل 25 ألف دولار فقط!
قد يبدو الأمر غريبًا، صادمًا، أو ربما مثيرًا للتأمل، لكن الفكرة وجدت طريقها بالفعل إلى آلاف الأشخاص حول العالم، خصوصًا ممن يبحثون عن “خلود رمزي”، أو يرغبون في ترك أثر خارج الأرض، أو يعشقون علوم الفضاء إلى حد الرغبة في أن تكون نهايتهم أيضًا رحلة عبر الكون.
فى هذا التقرير المطوّل، نسلّط الضوء على فكرة حجز قبر على المريخ، ماذا تعني؟ كيف تتم؟ من يقف وراءها؟ ما مدى قانونيتها؟ وما الذي يدفع البشر إلى الدفع مقابل أن يكونوا جزءًا من الكوكب الأحمر حتى بعد الموت؟ نستعرض القصة كاملة من جميع زواياها، مع تحليل علمي، نفسي، فلسفي، واقتصادي لهذه الظاهرة الجديدة.
كيف بدأت فكرة “قبر على المريخ”؟
ظهرت الفكرة لأول مرة عبر شركات تكنولوجية ناشئة في الولايات المتحدة وأوروبا تعمل في مجالات تقنيات الفضاء، الأقمار الصناعية الصغيرة، والشحن الفضائي منخفض التكلفة. الفكرة تعتمد على إرسال “كبسولة صغيرة” تحمل رماد الشخص بعد حرق الجثمان، أو عينة DNA، أو مجرد رسالة وبصمة رقمية تشير إلى الشخص، ثم يتم إطلاقها ضمن رحلة غير مأهولة تتجه إلى المريخ أو تهبط على سطحه.
بحسب الشركات المنظمة، فإن الكبسولات يتم تضمينها داخل “صندوق تذكاري” يتم دفنه بشكل محترم فى منطقة آمنة بالمريخ، مما يمنح صاحبها فرصة أن يكون أول من استقر بعد موته على كوكب آخر، وهو ما يعتبره الكثيرون “شرفًا” أو “خلودًا علميًا”.
اللافت أن بعض الشركات أعلنت أن عدد الحجوزات في اليوم الأول وصل إلى أكثر من 900 طلب من 37 دولة، ما أثبت أن الفكرة ليست مجرد مزحة إنترنت بل منتج تجاري جدّي يجد إقبالًا كبيرًا، خاصة من عشاق الفضاء، ورجال الأعمال، والمشاهير، والمهووسين بفكرة “الحياة بعد الموت”.
كيف يتم حجز القبر على المريخ مقابل 25 ألف دولار؟
وفقًا لما نشرته الشركات عبر مواقعها الرسمية، فإن حجز القبر يتم عبر خطوات واضحة:
- الدخول إلى الموقع الرسمي للشركة واختيار “خطة الدفن المريخية”.
- اختيار نوع البقايا: رماد – حمض نووي – أثر رقمي – رسالة شخصية.
- دفع الرسوم المقدرة بـ25 ألف دولار تشمل الإطلاق، التخزين، التأمين، والتوثيق.
- استلام “شهادة الدفن الفضائي” مع إحداثيات المكان المتوقع لوصول الكبسولة إلى المريخ.
- بعد الإطلاق، يتم إرسال بث مباشر للعملاء لمتابعة رحلة الكبسولة فى الفضاء.
وتقدم الشركات بعض الخدمات الإضافية بأسعار أعلى، مثل:
- ميزة VIP لوضع الكبسولة داخل منطقة معينة في المريخ.
- خدمة الذاكرة الرقمية التي تتيح تحميل صور وفيديوهات وصوتيات تظل مخزنة داخل الكبسولة لمدة آلاف السنين.
- التأمين الفضائي فى حال فشل الإطلاق، حيث يتم إعادة الإرسال مرة أخرى دون تكلفة.
هل يسمح القانون الدولي بوضع قبور على المريخ؟
هذا أحد أكثر الأسئلة إثارة للجدل. فالمريخ ليس ملكًا لدولة معينة، لكنه يخضع لمعاهدات دولية تمنع “امتلاك الأراضي خارج الأرض”. لكن الشركات تقول إنها لا تبيع أرضًا، بل مساحة صغيرة داخل كبسولة يتم إرسالها إلى الكوكب، وهذا قانونيًا لا يُعتبر بيعاً لأرض خارجية.
من ناحية أخرى، يتوقع علماء القانون أن تظهر تشريعات جديدة لتنظيم هذه الظاهرة، لأن توسّعها قد يؤثر على مستقبل بعثات الاستكشاف، وقد يسبب مشاكل بيئية على المريخ، خاصة فيما يتعلق بالتلوث البيولوجي.
حتى الآن، لا يوجد قانون يمنع إرسال رماد أو آثار بشرية إلى المريخ، لكن هناك جدل كبير حول أخلاقيات ذلك.
لماذا يدفع البشر 25 ألف دولار لحجز قبر على كوكب آخر؟
الدوافع تختلف من شخص لأخر، لكن أبرزها:
1. الرغبة في الخلود
يرى البعض أن إرسال بقاياه إلى المريخ سيجعله جزءًا من التاريخ، خاصة إذا أصبح الكوكب مأهولًا خلال عشرات السنين القادمة.
2. إيمان بفلسفة “العودة للكون”
بعض المدارس الروحية الحديثة ترى أن الإنسان يجب أن يعود إلى الفضاء الذي خرجت منه الحياة أصلاً.
3. حب علوم الفضاء
هناك أشخاص حلمهم الأكبر زيارة كوكب آخر، لكن الظروف أو الوقت لا يسمح، فيختارون “الزيارة بعد الموت”.
4. الاتجاه التسويقي
فكرة “أكون أول شخص من عائلتي ينتهي به المطاف خارج الأرض” تبدو جذابة للبعض.
5. الاستثمار الرمزي
الشركات تقول إن الكبسولات تظل آلاف السنين دون أن تتلف، وهو ما يعتبره البعض “أرشيفًا أبديًا لهم”.
الدين ودفن الإنسان على المريخ.. ماذا يقول العلماء؟
هذه النقطة أثارت جدلاً كبيرًا، فالكثير يتساءل: هل يجوز شرعًا إرسال بقايا إنسان إلى كوكب آخر؟
حتى الآن لم يصدر رأي ديني رسمي، لكن بعض العلماء أكدوا:
- دفن الإنسان فى الأرض هو الأصل الشرعي.
- إرسال رماد الجثمان للمريخ لا يوافق الأحكام الشرعية.
- لكن إرسال أثر رقمي أو رسالة لا توجد إشكالية فيه.
وبينما تتواصل المناقشات، ما زالت الشركات تؤكد أن أغلب العملاء يطلبون إرسال عيّنات DNA فقط، وليس رمادًا بشريًا.
كيف تتم الرحلة فعليًا؟
تبدأ العملية بإطلاق صاروخ يحمل عدة كبسولات صغيرة، قد يصل عددها إلى 500 كبسولة في الرحلة الواحدة. الصاروخ لا يهبط على المريخ مباشرة، بل:
- يدور حول المريخ لفترة معينة.
- يُطلق كبسولات صغيرة تهبط عبر مظلات أو عبر تقنية النزول البطيء.
- تستقر الكبسولات فى منطقة صخرية بعيدة عن مواقع الهبوط الرسمية لوكالات الفضاء.
- يتم تسجيل الموقع بدقة وإرساله لأهل الشخص.
الشركات تقول إن الكبسولة قوية للغاية، ومصممة لتحمل درجات الحرارة القاسية، والعواصف الترابية، والضغط الجوي المنخفض.
هل يمكن زيارة قبرك على المريخ مستقبلًا؟
الإجابة نظريًا: نعم.
عمليًا: ليس قبل 30–50 سنة على الأقل.
ومع تطور تكنولوجيا الرحلات المأهولة، قد يصبح من الممكن فى المستقبل أن يزور أحفاد الشخص ذلك المكان، مما يعطي الفكرة بعدًا “عائليًا”، وكأن الشخص يترك أثرًا حقيقيًا لأجيال قادمة.
تحليل نفسي: لماذا يعشق البشر فكرة “قبر بين النجوم”؟
منذ آلاف السنين، ربط الإنسان موته بالسماء والنجوم. المصريون القدماء بنوا الأهرامات لتوجه أرواحهم نحو الفضاء. حضارات أخرى آمنت بأن الروح تعود للنجوم.
صحيح أن الدفن على المريخ أمر غير تقليدي، لكنه امتداد طبيعي لتطور الخيال البشرى. الإنسان يريد دائمًا أن يكون “مختلفًا”، “أسطوريًا”، “غير عادي”، وهذه الفكرة تحقق له ذلك.
ماذا يقول العلماء؟
عدد كبير من علماء الفضاء يرون أن هذا النوع من المشاريع:
- يعزز ثقافة الفضاء لدى العامة.
- يجمع تمويلًا يدعم مشروعات الاستكشاف.
- يساهم فى تطوير تقنيات الشحن الفضائي منخفض التكلفة.
لكن هناك تحذيرات أيضًا:
- مخاوف من التلوث البيئي للمريخ.
- احتمال إتلاف مناطق علمية مهمة للكشف عن آثار حياة قديمة.
- ضرورة وجود تشريعات دولية تنظم الأمر.
ومع ذلك، ما يزال المشروع قائمًا ويحقق أرباحًا كبيرة، ما يجعله واحدًا من أغرب الأعمال التجارية فى القرن الحادي والعشرين.
فيديو المشروع يثير الجدل
انتشر خلال الأيام الماضية فيديو ترويجي للشركة، يظهر فيه موظفون داخل غرفة التحكم يستعرضون مراحل تجهيز الكبسولة، ثم تصوير الإطلاق، ولقطات محاكاة تظهر الكبسولة وهي تهبط على أرض المريخ.
الفيديو حقق أكثر من 10 ملايين مشاهدة فى يومين فقط، وتحوّل لمادة للنقاش فى مواقع التواصل، بين مؤيد يرى أنها فكرة ملهمة، وآخر يراها عبثية وغير منطقية.
فى النهاية.. هل نحجز قبورًا على كوكب آخر؟
سواء كنا نوافق أو نرفض، فإننا أمام تطور جديد فى علاقة الإنسان بالفضاء.
فالفضاء أصبح ليس فقط مكانًا للاستكشاف، بل مكانًا للوجود الإنساني الرمزي بعد الموت.
فكرة “قبر على المريخ” ليست مجرد خدمة… إنها علامة على أننا نعيش فى عصر تغيرت فيه مفاهيم الحياة، والموت، والهوية، والخلود.
ومع استمرار التقدم التكنولوجي، قد نرى مستقبلًا خيارات أغرب وأعمق، ربما مقابر على القمر، أو قبورًا تحوم فى مدار الأرض.
حتى ذلك الحين، سيظل السؤال قائمًا:
هل يدفع الإنسان 25 ألف دولار ليكون جزءًا من كوكب آخر بعد الموت؟
الإجابة الآن: نعم… والعدد يتزايد كل يوم.






