هيئة الدواء المصرية: إخلاء السوق من الأدوية منتهية الصلاحية قبل 30 أكتوبر الجاري

خطوة حاسمة لحماية صحة المواطن
في خطوة تؤكد حرص الدولة المصرية على سلامة الدواء وصحة المواطن، أعلنت هيئة الدواء المصرية عن إلزام جميع الشركات والموزعين والصيدليات بإخلاء السوق من الأدوية منتهية الصلاحية قبل 30 أكتوبر الجاري.
ويأتي القرار ضمن خطة وطنية تهدف إلى ضبط سوق الدواء، وإزالة أي مستحضرات قد تشكّل خطرًا على صحة المواطنين أو تمسّ الثقة في جودة الدواء المصري.
يُعد هذا القرار من أهم الإجراءات الرقابية التي اتخذتها الهيئة خلال عام 2025، حيث يأتي في سياق استكمال منظومة تحديث الرقابة الدوائية التي تتبناها الدولة،
ويواكب المعايير الدولية في إدارة دورة حياة المستحضرات الدوائية من التصنيع إلى التداول ثم الإعدام الآمن.
خلفيات القرار ودوافعه
تزايدت في السنوات الأخيرة الشكاوى من وجود أدوية منتهية الصلاحية على أرفف بعض الصيدليات أو لدى بعض موزّعي الأدوية.
ورغم أن الكميات لم تكن ضخمة، إلا أن الهيئة اعتبرت أن وجودها ولو بنسبة ضئيلة يمثّل خطرًا على الصحة العامة ويقوّض ثقة المواطن في المنظومة الصحية.
من هنا، جاءت المبادرة لإخلاء السوق تمامًا من أي دواء انتهت صلاحيته أو اقتربت مدة صلاحيته من الانتهاء.
كما تهدف المبادرة إلى إرساء نظام رقابي مستدام يضمن عدم تكرار المشكلة مستقبلاً،
ويعزز الوعي لدى الصيدلي والمستهلك بشأن أهمية التخلص الآمن من الأدوية المنتهية، وعدم إعادة استخدامها أو بيعها بأي شكل.
تاريخ الرقابة الدوائية في مصر
شهدت مصر منذ منتصف القرن العشرين تطورًا تدريجيًا في الرقابة على الدواء، بدءًا من القوانين المنظمة للصيدليات
ثم إنشاء إدارة التفتيش الصيدلي، وصولًا إلى تأسيس هيئة الدواء المصرية عام 2019 ككيان مستقل يتبع رئاسة الوزراء.
ومنذ إنشائها، تبنّت الهيئة نهجًا علميًا يعتمد على الممارسات الجيدة للتصنيع والتداول،
وأطلقت سلسلة من المبادرات لتنقية السوق من المستحضرات غير المرخصة أو المخالفة للمواصفات.
وقد واجهت الهيئة تحديات كبيرة في السنوات الأولى لعملها، أهمها ضعف البيانات المركزية عن المخزون الدوائي،
وانتشار السوق الموازية. إلا أن التطورات التقنية الحديثة أسهمت في بناء قاعدة بيانات قومية شاملة تضم كل المستحضرات المسجلة والشركات المنتجة والموزّعين.
آلية تنفيذ قرار الإخلاء
أعلنت الهيئة أن الخطة تنفذ على ثلاث مراحل رئيسية:
- المرحلة الأولى: حصر شامل لجميع الأدوية المنتهية الصلاحية في الصيدليات والمخازن والمستشفيات الخاصة.
- المرحلة الثانية: قيام الشركات المصنعة والموزعة باستلام تلك الكميات لإعدامها وفق المعايير البيئية المعتمدة.
- المرحلة الثالثة: متابعة ورقابة ميدانية للتحقق من خلو السوق من أي عبوات منتهية.
تقوم لجان مشتركة من مفتشي الهيئة ونقابة الصيادلة بزيارات ميدانية مفاجئة للتحقق من الالتزام،
كما فُتح باب تلقي البلاغات من المواطنين عبر الخط الساخن ورقم «واتساب» مخصص لهذا الغرض.
أرقام وإحصاءات رسمية
بحسب البيانات الأخيرة، تم تسجيل أكثر من 20 مليون عبوة دوائية منتهية الصلاحية عبر المنصة الإلكترونية،
منها ما يزيد على 17 مليون عبوة تم سحبها بالفعل خلال الشهرين الماضيين.
كما تم تسجيل مشاركة أكثر من 56 ألف صيدلية في المبادرة، في حين أعلن نحو 15 ألف منها خلوها من أي أدوية منتهية.
هذه الأرقام تعكس نجاحًا ملحوظًا في التنسيق بين القطاعين العام والخاص،
وتبرز أيضًا ارتفاع وعي الصيادلة بأهمية الدور الرقابي والمهني في حماية المريض.
الجانب البيئي: الإعدام الآمن للمخلفات الدوائية
يمثل التخلص الآمن من الأدوية أحد التحديات البيئية الكبرى، نظرًا لما تحتويه من مواد كيميائية قد تلوّث المياه أو التربة إن تم التخلص منها بطريقة خاطئة.
وقد أكدت الهيئة أن جميع عمليات الإعدام تُجرى في منشآت معتمدة من جهاز شؤون البيئة،
وفقاً لبروتوكولات تضمن الحرق الكامل عند درجات حرارة مرتفعة تمنع أي انبعاثات ضارة.
كما يجري العمل على مشروع وطني لإنشاء وحدات صغيرة لمعالجة النفايات الصيدلانية في المحافظات الكبرى،
لتقليل تكلفة النقل والتخلص المركزي.
وذلك في إطار رؤية الدولة للتحول إلى اقتصاد أخضر ومستدام.
آراء الخبراء في القرار
يرى الدكتور محمد إسماعيل، أستاذ الصيدلة الإكلينيكية بجامعة القاهرة،
أن هذه المبادرة تمثل «نقلة نوعية في ضبط سوق الدواء المصري»، مؤكدًا أن الدولة باتت تمتلك لأول مرة قاعدة بيانات دقيقة لتوزيع المستحضرات.
وأضاف أن التطبيق الرقمي للمتابعة يسهم في اكتشاف أي خلل في سلاسل الإمداد قبل أن يتحول إلى أزمة.
أما الدكتورة منى عبد اللطيف، مدير معهد الأمصال واللقاحات، فترى أن «المواطن سيكون المستفيد الأول» من هذه الإجراءات،
لأنها تحميه من التعرض لمستحضرات فقدت فعاليتها أو تحوّلت إلى مركبات سامة.
كما شددت على أن هذا الجهد يعزز سمعة الدواء المصري في الأسواق الخارجية،
خصوصًا في ظل سعي مصر للتوسع في تصدير المستحضرات الصيدلانية إلى إفريقيا والعالم العربي.
قصص ميدانية من الصيدليات
خلال الجولات التفتيشية، رصدت الهيئة نماذج إيجابية لصيدليات بادرت من تلقاء نفسها بتجميع الأدوية المنتهية وتسليمها طوعًا لشركات التوزيع.
يحكي أحد الصيادلة في محافظة الشرقية أنه تمكن خلال أسبوع واحد من حصر 320 عبوة منتهية،
ويقول: «نحن نعتبرها مسؤولية مهنية وأخلاقية، فكل دواء غير صالح هو خطر محتمل على حياة إنسان».
وفي المقابل، تم ضبط بعض الحالات المحدودة لصيدليات احتفظت بأدوية منتهية الصلاحية بغرض إعادتها للموردين،
لكن الهيئة شددت على أن مجرد الاحتفاظ بها في مكان العرض يُعد مخالفة تستوجب المساءلة.
المقارنة الدولية: مصر نموذجاً عربياً
في كثير من الدول المتقدمة، مثل ألمانيا وكندا، تُنفذ حملات دورية لجمع الأدوية المنتهية من المنازل والصيدليات.
وقد سارت مصر على خطى هذه النماذج من خلال الجمع المنظم، مع تكييف التجربة لتناسب طبيعة السوق المحلية.
فبينما تتعامل الدول الغربية مع الأدوية المنتهية باعتبارها نفايات خطرة بيئياً،
تتعامل مصر معها أيضًا كقضية أمن دوائي، لقطع الطريق على تداول أي منتجات مجهولة المصدر أو مغشوشة.
كما أشادت منظمات عربية مثل اتحاد الصيادلة العرب بالخطوة المصرية،
واعتبرتها نموذجًا يمكن تكراره في المنطقة لمواجهة ظاهرة الدواء الفاسد التي تتسبب في خسائر بمليارات الدولارات سنويًا.
تأثير القرار على الصناعة الدوائية
من الناحية الاقتصادية، يُتوقع أن يسهم القرار في تعزيز تنافسية الشركات الملتزمة بالمواصفات،
ويحد من الممارسات غير المشروعة لبعض الكيانات الصغيرة.
فإزالة الأدوية المنتهية من السوق ستفسح المجال أمام منتجات جديدة ذات جودة أعلى،
كما ستقلل من التشوهات في الأسعار الناتجة عن تكدس المخزون القديم.
وستستفيد الصناعة أيضًا من إعادة تدوير بعض مكوّنات التغليف عبر شركات متخصصة،
ما يضيف بُعدًا اقتصاديًا وبيئيًا في آن واحد.
دور المواطن في الحفاظ على منظومة الدواء
أطلقت الهيئة بالتعاون مع وزارة الصحة حملة توعوية عبر وسائل الإعلام بعنوان «دواؤك أمانة»،
تحث المواطنين على عدم استخدام أي دواء منتهي الصلاحية أو الاحتفاظ به في المنازل.
كما دعتهم إلى تسليم هذه الأدوية للصيدليات القريبة بدلاً من التخلص منها في القمامة.
ويتضمن الموقع الرسمي للهيئة قسمًا تفاعليًا يمكن للمواطن إدخال بيانات أي دواء مشكوك في صلاحيته،
ليحصل فورًا على نتيجة تفيد بمدى صلاحية المنتج واسم الشركة المنتجة وتاريخ انتهاء الترخيص.
الرقابة الرقمية والتحول الإلكتروني
ضمن استراتيجية التحول الرقمي، طوّرت الهيئة منصة إلكترونية لتتبع الأدوية تُعرف باسم منظومة التتبع الدوائي.
تتيح هذه المنظومة تحديد مسار كل عبوة دوائية منذ خروجها من المصنع وحتى وصولها للمريض.
ويجري حالياً العمل على ربطها بمنظومة الجمارك والمطارات لمنع تهريب أو دخول أي أدوية غير مسجلة.
ويُتوقع أن تسهم هذه المنظومة في إغلاق الباب أمام السوق السوداء التي تنشط أحياناً عبر الإنترنت،
كما ستتيح للمستهلك التحقق من الأصالة عبر مسح رمز QR على العبوة.
التحديات المستقبلية واستدامة الجهود
التخلص من الأدوية المنتهية هو بداية لمسار أطول من الإصلاحات.
فالسوق الدوائية تحتاج إلى آلية دائمة لإدارة المخزون وتحديد حجم الاستهلاك بدقة لمنع تراكم الفائض.
كما ينبغي إدماج هذه الإجراءات في تشريعات ملزمة تفرض على الشركات التزامات بيئية واضحة.
كذلك، يجب دعم الصيدليات الصغيرة التي قد تواجه صعوبات مالية في إرجاع الكميات القديمة،
عبر تقديم حوافز أو خصومات من الشركات المنتجة لضمان التزام الجميع.
رؤية مستقبلية
تطمح هيئة الدواء المصرية إلى أن تصبح مصر مركزًا إقليميًا لتصنيع وتصدير الدواء الآمن،
وأن تكون الرقابة الذكية على الدواء جزءًا من منظومة الصحة العامة.
وفي هذا الإطار، فإن مبادرة سحب الأدوية المنتهية تمثل نموذجًا لنجاح العمل المؤسسي والتكامل بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
من المتوقع أن تُدرج مصر خلال السنوات القادمة في قائمة الدول الحاصلة على اعتماد منظمة الصحة العالمية في «الرقابة الدوائية المتقدمة»،
وذلك بعد استكمال مشروع التتبع الإلكتروني الكامل لجميع المستحضرات.
خاتمة عامة
قرار هيئة الدواء المصرية بإخلاء السوق من الأدوية منتهية الصلاحية قبل 30 أكتوبر الجاري
ليس مجرد حملة عابرة، بل خطوة إصلاحية جذرية ترسّخ مفهوم الجودة والمسؤولية في قطاع الدواء.
إنّ ما تحقق من نسب إنجاز مرتفعة هو مؤشر على أن التعاون المؤسسي والوعي المهني قادران على حماية صحة ملايين المصريين.
ومع استمرار المتابعة والرقابة الرقمية، سيتحول سوق الدواء المصري إلى نموذج يُحتذى به في المنطقة،
ويثبت أن «صحة المواطن» كانت ولا تزال هي الهدف الأول لكل سياسات الدولة.






