
منذ خريف عام 1888، لا تزال قضية جاك السفاح واحدة من أكثر الألغاز إثارة وغموضًا في التاريخ الجنائي البريطاني والعالمي. على الرغم من مرور أكثر من قرن على سلسلة الجرائم التي وقعت في حي وايت تشابل بلندن، فإن هوية القاتل ما تزال مجهولة. ومع أن معظم النظريات السابقة افترضت أن القاتل كان رجلًا، فإن بعض الفرضيات بدأت بالظهور لاحقًا لتطرح احتمالًا أكثر إثارة: ماذا لو كان القاتل امرأة؟
هذه الفرضية قلبت موازين التفكير السائد، وأجبرت المحققين والمؤرخين على مراجعة العديد من التفاصيل التي قد تم تجاهلها في السابق. فكرة أن الجاني قد لا يكون “جاك” بل “جاكلين” أو “جيل السفاحة” فتحت بابًا واسعًا للتكهنات، خاصة وأن بعض الأدلة ربما تدعم هذه الفرضية.
نظريات المؤامرة، التي لطالما رافقت هذا الملف، بدأت تُعيد ترتيب أوراقها، حيث اعتبر البعض أن المجتمع الفيكتوري المحافظ لم يستطع تقبل فكرة أن امرأة قادرة على ارتكاب مثل هذه الجرائم البشعة، مما دفع السلطات لإخفاء أي إشارات محتملة إلى هوية أنثوية.
-
إعادة بناء هيكل عظمي تكشف ملامح محارب قديم2025-04-12
يستند أنصار فرضية السفاحة إلى تحليل منهجي لأسلوب الجريمة والظروف التي أحاطت بالضحايا، مؤكدين أن بعض تفاصيل المشهد الجنائي تحمل توقيعًا أنثويًا من حيث التخطيط والدقة وربما حتى العواطف المكبوتة.
اللافت أن الصحف في تلك الحقبة لم تستبعد بالكامل احتمال أن تكون امرأة هي الجانية، خاصة بعد شيوع إشاعات عن وجود “قابلة مأجورة” تجوب شوارع لندن ليلًا، لكن تم تجاهل هذه الفرضية لاحقًا لصالح “الصورة النمطية للقاتل الذكر”.
عودة الاهتمام بهذه الفرضية في القرن الحادي والعشرين، بفضل تطور علم الأدلة الجنائية وتحليل الحمض النووي، جعل الكثيرين يعيدون النظر في الحقائق المعروفة سابقًا. يبدو أن هناك فجوات في الرواية الرسمية، وفراغات تملؤها الأسئلة أكثر من الإجابات.
فهل أخفقت الشرطة عمدًا أم غفلت عن إشارات جوهرية؟ هل يمكن للقاتل أن يكون قد استغل صورة الأنثى ليتحرك بحرية في الليل دون إثارة الشكوك؟ وهل كانت أنثى تعرف ضحاياها عن قرب؟ كل هذه الأسئلة تُسلّط الضوء على عمق الغموض الذي يكتنف هذه الشخصية التاريخية الشريرة.
في هذا المقال، سنغوص في تفاصيل هذه الفرضية المقلقة: هل كان جاك السفاح امرأة؟ سنستعرض الأدلة، السياقات التاريخية، الدراسات الجنائية، والشهادات التي قد تعيد تشكيل صورة القاتل الأشهر في تاريخ لندن.
الأدلة الغامضة: هل خبأت التحقيقات مفتاح الحقيقة؟
رغم كل ما قُدم من وثائق ومذكرات وتحقيقات رسمية، فإن الجريمة بقيت من دون حل قاطع، ما جعل الكثير من الباحثين يشككون في حيادية وكفاءة الشرطة البريطانية آنذاك. كان هناك حديث متكرر عن طمسٍ متعمد لبعض الأدلة أو تهميشها لأنها لا تتماشى مع الفرضيات المقبولة مجتمعيًا.
من بين تلك الأدلة الغامضة، نجد أوصاف الشهود التي تضاربت بشكل كبير. بعض الشهادات وصفت رجلاً ذا لحية، وآخرون أشاروا إلى “شخص صغير الحجم، يملك خطوات خفيفة”، وهي سمات قد تنطبق على امرأة متنكرة بملابس الرجال.
هناك تقارير محدودة أشارت إلى امرأة شوهدت بالقرب من بعض مواقع الجرائم، وتم التحقيق معها بشكل سطحي قبل إطلاق سراحها دون التعمق. مثل هذه الشهادات غالبًا ما أُهملت، كما لو أن السلطات لم تكن على استعداد للنظر في الاحتمال المخالف للنمط السائد.
الملابس التي تم العثور عليها في بعض مواقع الجرائم تضمنت قطعًا كانت ترتديها النساء عادة، أو تلك التي تستعمل في المهن التي تزاولها النساء، مثل القبعات أو الشالات، لكنها لم تُعامل كدليل مهم في التحقيقات.
كان أيضًا هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الضحايا، فهن جميعًا من العاملات بالجنس، وفي ذلك الزمان كن يتعاملن بكثير من الحذر مع الرجال. فكيف إذًا تمكن الجاني من التقرب منهن دون إثارة الريبة؟ هل من الممكن أنهن كن يشعرن بأمان في وجود امرأة؟
المشرّحون الذين فحصوا الجثث أكدوا في بعض التقارير وجود مهارة جراحية في طريقة التشريح، لكن البعض لمّح إلى أن هذه المهارة قد تكون أيضًا متوافرة عند قابلة أو ممرضة ذات خبرة عملية، وليس شرطًا أن يكون القاتل جراحًا ذكرًا.
التفسير النفسي للجريمة يشير إلى دوافع عاطفية معقدة، من بينها الغيرة أو الكراهية المتجذرة، وربما تشير بعض أساليب الطعن إلى توتر شخصي بين القاتل والضحية، ما يدفع إلى التفكير بأن القاتل لم يكن غريبًا، وربما امرأة من بيئتهن الاجتماعية.
هل كان إغفال هذه الجوانب مقصودًا؟ هل خشيت السلطات من تداعيات الكشف عن قاتلة أنثى وسط مجتمع محافظ؟ هل شعرت أن ذلك قد يزلزل الثقة بالنظام الأخلاقي؟ إن تحييد الأدلة التي تقود إلى أنثى قد يكون قرارًا سياسيًا أكثر منه مهنيًا.
في النهاية، تركت هذه الثغرات فراغًا زمنيًا استمر لعقود، لا يمكن ملؤه إلا إذا أعيد فتح التحقيق بأسلوب أكثر حيادية وشمولية، آخذًا في الاعتبار أن السفاح قد لا يكون رجلًا على الإطلاق.
القابلة القاتلة: فرضية مرعبة تحظى بزخم متزايد
أحد أكثر السيناريوهات إثارة هو فرضية أن القاتل كان قابلة – امرأة متخصصة في التوليد – استغلت طبيعة مهنتها لتتنقل في الأحياء المظلمة دون أن تثير الشكوك، وتحمل أدوات حادة تحت غطاء العمل، وتعرف تشريح الجسد الأنثوي بدقة.
في أواخر القرن التاسع عشر، كانت القابلات جزءًا لا يتجزأ من المجتمع، ووجودهن في الطرقات ليلاً كان أمرًا معتادًا. هذه الحقيقة تجعل من السهل على قاتلة محتملة أن تختبئ في صورة مألوفة لا تثير الريبة، عكس الرجل الذي يتجول في حي وايت تشابل في ساعات متأخرة.
من اللافت أن نمط القتل تضمن استئصال أعضاء تناسلية من الضحايا، بطريقة تشير إلى معرفة عميقة بالتشريح الأنثوي، وهو ما يفتح الباب أمام فرضية أن القاتل لم يكن فقط على دراية بالجسد، بل ربما كان أيضًا يحمل دافعًا شخصيًا يرتبط بالنساء وعلاقته بهن.
قد تكون هذه القابلة شخصًا عانى من الإجهاض أو فقد طفلًا، أو عانت من مشكلات نفسية، أو ربما كانت تكره العاملات بالجنس لسبب شخصي أو ديني. هذا النوع من الدافع العاطفي العنيف يُستدل عليه أحيانًا من أسلوب الطعن المكرر أو التمثيل بالجثة.
تتناسب أيضًا البنية الجسدية التي وصفها بعض الشهود – “قصيرة، سريعة، بخطوات حذرة” – مع صورة امرأة معتادة على التنقل بحذر، تحمل حقيبة طبية صغيرة أو لفافة من القماش بداخلها أدواتها، دون أن يثير مظهرها الذعر.
وثّقت بعض التقارير وجود امرأة شوهدت وهي تغسل ملابس ملطخة بالدماء في وقت غير معتاد قرب أحد مواقع الجرائم. لم يتم التحقيق معها بجدية، لأن التصور السائد كان أن القاتل رجل، مما يدعم فرضية تجاهل الشرطة لأدلة ذات طابع نسوي.
حتى التوقيت الذي ارتكبت فيه الجرائم – في فترة الفجر أو قبله – يتماشى مع مواعيد عمل القابلات، اللاتي كن يُستدعين في ساعات مبكرة لحالات طارئة، وهو ما يمنح السفاحة غطاءً مثاليًا لحركتها وتنفيذ جرائمها.
أسماء محددة طُرحت لاحقًا كمرشحات محتمَلات، مثل ماري بيرسي، التي اتُهمت لاحقًا بقتل امرأة بطريقة مشابهة لأسلوب جاك السفاح. وقد تكون جريمتها تلك نموذجًا مكررًا لنمط سابق أخفته خلف مظهرها الهادئ.
الأهم من ذلك، أن فكرة “القابلة القاتلة” ليست غريبة تمامًا عن التاريخ الجنائي، فثمة حوادث مشابهة وثقت في فترات لاحقة، مما يمنح الفرضية خلفية واقعية بعيدًا عن كونها مجرد خيال بوليسي.
إذا صحّت هذه الفرضية، فإن الأمر لا يتعلق فقط بإعادة كتابة تاريخ الجرائم، بل بإعادة تفكيك العقلية المجتمعية التي رفضت – ولا تزال – تصديق أن المرأة قادرة على الإيذاء المنهجي، والعنف البارد.
الخدع والتنكر: هل ارتدت السفاحة زيّ رجل؟
احتمال أن تكون القاتلة امرأة تنكرت بزيّ رجل ليس مجرد سيناريو روائي. فقد كانت التنكرات شائعة في لندن الفيكتورية، خاصة في الأحياء التي تعج بالمتسولين، والمحتالين، والممثلين المتجولين. وبما أن الجرائم كانت تحصل ليلًا، فإن انتحال هيئة رجل يُعد وسيلة فعّالة لإرباك الشهود.
إذا كانت السفاحة قد ارتدت معطفًا طويلًا وقبعة تقليدية، فقد يراها الشهود من بعيد رجلًا ضئيل البنية لا أكثر. مثل هذا التنكر يُمكن أن يفسر التناقض في أوصاف الجاني: لحية خفيفة، صوت ناعم، جسد نحيف – سمات تحتمل التأنيث والتنكر معًا.
بعض الشهود أشاروا إلى أن الجاني تحدث مع الضحايا بلطف أو بصوت منخفض، وتلك ليست بالضرورة صفات ذكورية، خصوصًا في محيط صاخب مثل وايت تشابل حيث يُفترض أن التفاعل مع العاملات بالجنس يكون مباشرًا وفظًا في أحيان كثيرة.
ربما كانت السفاحة تعمل في خدمة إحدى العائلات الثرية في النهار، ثم تستغل ساعات الليل للتنقل في زي تنكري، مدفوعة برغبة انتقامية أو اضطراب نفسي مرتبط بماضٍ مؤلم. شخص من هذا النوع سيكون بعيدًا تمامًا عن دائرة الشك.
إذا فكّرنا في أدوات القتل، مثل السكين الدقيقة المستخدمة في بعض الجرائم، فإنها قد تكون من نوع الأدوات التي تستعملها النساء في الطهو أو المهن النسائية، لكنها حين تُخزَن في جيب معطف رجالي تصبح أداة قتل لا تثير الانتباه.
السلوك الهادئ الذي اتسمت به الجرائم – من دون مقاومة أو ضوضاء – قد يدل على أن الضحايا لم يشعرن بأي تهديد أولي، ربما بسبب مظهر القاتل أو نبرته أو كونه أنثى تتحدث إليهن كإحدى بنات بيئتهن.
وثائق الشرطة احتوت على إشارات عن ملابس غريبة شوهدت قرب أحد مسارح الجريمة، وقد تكون جزءًا من زيّ استخدم للتنكر. للأسف، لم يُتابع التحقيق في هذا الاتجاه بجدية، ما يجعل هذا الدليل أحد ضحايا الانحياز المسبق.
حتى في الرسائل التي وُجهت للشرطة موقّعة باسم “جاك السفاح”، قد يكون الأمر محاولة لتثبيت صورة القاتل الذكر عمدًا، وهي خدعة متقنة من القاتلة نفسها لصرف الأنظار عنها، خصوصًا إذا كانت ذكية وواعية لآليات التحقيق.
الاحتمال الأغرب – والأكثر رعبًا – هو أن بعض المحققين ربما كانوا يعرفون أو يشتبهون أن الجاني امرأة، لكنهم أخفوا ذلك عمدًا حماية للعرف الاجتماعي، أو تجنبًا لفضيحة كانت ستقلب النظام الأخلاقي رأسًا على عقب.






