تحقيقات المفتش عمر قضية (الخيوط المتشابكة)

الرواية دي هي أول روايات المفتش عمر في مجال الأدب، وفي الرواية دي كان الظهور الأول لـلمفتش عمر مع صديقه دكتور أحمد، وكانت أول ظهور لعمر كمحقق، وهي أول رواية بوليسية في سلسلة تحقيقات المفتش عمر، وتم نقلها من مذكرات الدكتور أحمد، وبتتكون من قسمين القسم الأول ذكريات أحمد، والقسم التاني بيتكلم عن جريمة إنهاء حياة، إكتب سنة 1887.
مذكرات أحمد.
خلصت دراستي في كلية الطب، واتخرجت سنة 1878، وشاركت في مجموعة من الدورات اللازمة للإلتحاق بالجيش، كان أول إلتحاقي بالجيش كطبيب مساعد، أخد كتير من الأشخاص في الحرب ديه ترقيات، وأوسمة… أما أنا فكان حظي سيء، وكل اللي أخدته من الحرب، والإلتحاق بالجيش إني إتصبت في كتفي بطلقة جرحت شريان، ولولا المساعد بتاعي اللي شالني على ضهره، ورجعني للمركز الرئيسي كان زماني يا إما مقتول، أو أسير.
نقلوني بعد كده للمستشفى الرئيسية، وكانت حالتي صعبة جداً، ولما بدأت أمشي، وأتحرك في المستشفى رجعت تاني لبلدي، وسافرت بعد كده منها للمدينة العاصمة… قعدت هناك الفترة الأولى في فندق من الفنادق، وعشت حياتي بلا هدف، وكنت بصرف كل الفلوس اللي بتجيلي لغاية مقربت أوصل للإفلاس.
كان قدامي حلين يا أما أسيب المدينة، وأعيش في بلد ريفية تكون أقل في المصاريف المادية، أو إني أغير طريقة حياتي، وإخترت الحل التاني، كان لازم أسيب الفندق، وأاجر شقة تكون أرخص.
اليوم اللي أخدت فيه الإختيار ده كنت قاعد في كافتيريا، وفجأة خبط على كتفي شخص بصتله، ولقيته المساعد بتاعي في الجيش كنت سعيد جداً أن أنا شفته… رحبت بيه جداً، وسلمت عليه، وطلبت منه إني أعزمه على الغدا في مطعم جنبنا.
سألني صديقي عن حالي، وقال: إيه اللي حصلك يا أحمد؟ شكلك رفيع، ووشك باهت؟
حكيتله على ظروفي بشكل مختصر، وقبل ما أخلص كلامي قالي: قد إيه إنت مسكين يا أحمد، وإيه اللي ناوي إنك تعمله؟
قلت: بدور على شقة، وبحاول إني ألاقيها كويسة، وبسعر كويس.
صديقي: غريبة إنت تاني شخص أسمع منه الجملة دي النهاردة.
سألت: ومين الشخص الأول؟
صديقي: صديق ليا بيشتغل في المعمل الكيميائي في المستشفى… كان لسه بيكلمني النهاردة الصبح إنه مش لاقي شخص يشاركه السكن لأنه ميقدرش يتحمل الإيجار كله لوحده.
قلت بإنفعال: أعتقد إني الشخص المناسب…أنا ممكن أشاركه في السكن، والإيجار، وهيكون شيء جميل إني يكون ليا شريك عن إني أسكن لوحدي.
بصلي صديقي بإستغراب، وقال: إنت متعرفش عمر يمكن ما تحبش إن يكون شريكك.
قلت: ليه إيه المشكلة؟
صديقي: أنا ما قلتش إنه فيه مشكلة، هو بس ليه طريقة غريبة في أفكاره… كمان هو متحمس جداً لدراسة بعض أنواع العلوم إنما في العموم هو شخص محترم.
قلت: يعني هو طالب طب؟
صديقي: انا مش عارف المجال اللي هيتخصص فيه… إنما هو كويس جداً في تخصص التشريح، وكمان في الكيميا ممتاز جداً بس أعتقد إنه حتى الأن ما اشتركش في ولا صف من صفوف الطب النظامي… وكل أبحاثه غريبة مش تبع منهج محدد… كمان عنده مجموعة كبيرة جداً من المعلومات المتنوعة الغير معتادة اللي بتدهش الدكاترة بتاعته.
قلت: إنت ما سألتوش أبدا عن التخصص اللي هو عايزه؟
صديقي: لاء… عمر مش الشخص اللي تقدر إنك تتكلم معاه بمزاجك أما هو بيتكلم بس لما يكون مزاجة كويس.
قلت: أنا عايز أقابله… لو كان هيبقى شريكي في السكن فأنا أحب إنه يكون شخص هادي… بيحب الدراسة، أنا لسه ما خفتش بشكل كامل، وما بحبش الدوشة… إزاي أقدر أقابل صديقك ده؟
صديقي: أعتقد إن إحنا هنلاقيه في المعمل فهو عادته يا أما ما يروحش المعمل لأيام ورا بعض، أو يفضل شغال في المعمل من الصبح لغاية بالليل بدون أي فاصل…. بعد الغداء هوديك لعنده لو كنت حابب.
قلت: طبعاً.
إتكلمنا في موضوعات تانية، وإحنا في طريقنا للمستشفى قالي صديقي على معلومات تانية عن الشخص اللي هشاركه في السكن..
صديقي: أرجوك ما تحملنيش المسؤولية لو ما اتفقتش معاه، أنا كل اللي أعرفه عنه معلومات قليلة، وإني بقابله في المعمل بس من وقت للتاني.
قلت: مفيش مشكلة لو ما اتفقتش معاه هسيبه بسهولة.
كملت كلامي مع صديقي، وقلت: إنت ليه حابب تخلي مسؤوليتك من الموضوع ده يا صديقي…هل الشخص ده ليه عادات سيئة؟…أرجوك قولي.
صديقي: الأمر مش بسيط إني أقولك حاجة أنا مش عارف أعبر عنها… أنا مش بحب طبيعته اللي بتسعي ورا العلم بشكل جنوني… حتي إنه ممكن يقدم مجموعة من المركبات اللي بيخرجها من النباتات، وبتستعمل في الأدوية، والسموم لواحد من صحابه… الموضوع ما فيهوش نية وحشة… وللأمانة ممكن هو يجربها علي نفسه شخصياً… هو بس عنده هوس شديد في الوصول للمعلومة العلمية، وتسجيلها.
قلت: عنده حق.
صديقي: أعتقد بعض الأوقات بيكون مبالغ…تخيل الأمر إن ممكن يوصل لضرب الأجسام في أوضة التشريح بعصايه…الأمر غريب، وصعب جداً.
قلت: ضرب الأجسام في المشرحة!
صديقي: أيوه عشان يعرف درجة الكدمات اللي ممكن تظهر بعد الموت… أنا شفت بنفسي، وهو بيعمل كده .
قلت: وبتقول انه مش طالب طب؟!
صديقي: انا مش عارف ربنا وحده اللي عارف الهدف من تجاربه…إحنا خلاص وصلنا…كون إنت وجهة نظرك الخاصة عن عمر.
وصلنا المستشفى، وطلعنا سلم، ومشينا في طرقة طويلة مدهونة باللون الأبيض، والأبواب لونها بني… في نهاية الطرقة كان المعمل الكيميائي… كان المعمل أوضة كبيرة فيها كميات كبيرة جداً من الأزايز، ومليانة بالترابيزات العريضة اللي موجود عليها كميات من أنابيب التقطير، وأنابيب الإختبار، والسخان اللي بيخرج منه الشعلة الزرقا.
كان في الأوضة كلها شخص واحد مشغول في تجربة كان بيعملها، ولما قربنا منه، وسمع صوت خطواتنا لف لينا، وأول ما شفنا قام وقف بشكل إنفعالي، وهو بيكلم صديقي، وماسك في إيده أنبوبة إختبار: أنا لقيت المادة اللي بتترسب بس في وجود الهيموجلوبين.
أعتقد لو كان إكتشف كنز من الدهب مكانش هيبقى فرحان، وسعيد كده.
صديقي: يا عمر ده دكتور أحمد.
سلم عليا، ومسك إيدي بقوة: أزيك عامل إيه؟ أعتقد إن إنت كنت في الجيش في أسوان من قريب؟
قلت بدهشة: إنت عرفت ده إزاي؟!
عمر: ما تهتمش… الموضوع ليه علاقة بالهيموجلوبين… أكيد إنت عارف أهمية الإكتشاف اللي أنا إكتشفته؟
قلت: هو إكتشاف مهم في الجزء اللي بيتعلق بالكيميا أما في الناحية العملية…
عمر: هو إكتشاف مهم جداً في الطب الجنائي، ومهم جداً في الناحية العملية… انت مش شايف إن إحنا نقدر نوصل لنتائج دقيقة لما نفحص بقع الدم؟ تعالى.
شدني عمر علي الترابيزة اللي كان شغال عليها، وقال: خلينا ناخد عينه من الدم الطازة.
غرز عمر إبره في صباعي، وسحب نقطة دم، وقال: دلوقتي هنضيف الدم للتر من المية، وهتاخد بالك إن لون الميه هيكون شبه المية النقية…رغم إن نسبة الدم مش أكتر من واحد بالمليون إلا إني واثق إن إحنا هنلاقي التفاعل اللي بيثبت وجود دم.
في الوقت اللي كان بيتكلم فيه عمر رمي ذرات بيضة في الأنبوبة، وبعد كده حط نقط من سايل لونه شفاف… في نفس اللحظة إتحولت الميه للون بني فاتح، وفضل في القاع مادة لونها بني.
عمر بإنفعال زي طفل صغير أخد لعبة جديدة: إيه رأيك؟
قلت: واضح إن هو إختبار دقيق.
عمر: لاء ده ممتاز… الإختبارات القديمة بيتخرج نتائج غير مؤكدة…الإختبار ده يقدر إنه يخرج النتائج سواء كانت البقعة جديدة، أو قديمة… أعتقد إن لو الإختبار ده إكتشف من فترة كان في ناس كتير أوي كانوا هيدفعوا تمن الجرايم اللي عملوها.
قلت بعدم إقتناع: أيوه.
عمر: كتير من القضايا بتقف عند النقطة نفسها… فممكن إن شخص يتم الإشتباه فيه لارتكابه جريمة حصلت من شهور، ومثلاً يكتشفوا بقعة لونها بني على ملاية السرير، أو في لبسه بس ما بيبقاش معروف البقعة دي هل بتكون دم، ولا صديد، ولا بقعه من فاكهة مثلاً؟ وده بسبب عدم وجود إختبار يعتمدوا عليه، أما دلوقتي في إختبار المفتش عمر،
عمر، وهو بيتكلم عينيه كانت بتلمع، وفي سعادة كبيرة جداً علي ملامحه.
كمل عمر كلامه، وقال: السنة اللي فاتت كان في قضية في أسيوط، وكان الشخص هيعدم… وفي قضية تانية حصلت في بور سعيد، وغيرها حصل في إسماعلية، وفي واحدة تانية في أسوان، أنا ممكن أقولك كل القضايا اللي كان الإكتشاف ده هيغير مسار القضية.
صديقي المساعد: واضح إن إنت سجل لكل أخبار الجريمة… ممكن نعمل جورنان متخصص في الأمر ده ونسميه أخبار الجريمة.
المفتش عمر: وممكن نخلي قرأته ممتعة كمان.
حط عمر لزقة جروح على الجرح في صباعي، وبصلي بإبتسامة، وقال: لازم تاخد بالك… بسبب شغلي فإيدي على طول موجودة في عناصر، ومواد ممكن تكون سامة… رفع عمر إيده، وهو بيتكلم، ولاحظت إن إيده مليانة بعدد كبير من اللزقات دي، وكان لونها متغير بسبب المواد الحمضية اللي بيتعرض ليها.
صديقي المساعد، وهو قاعد على الكرسي: إحنا جينا بسبب أمر معين يا عمر…فصديقي دكتور أحمد بيبحث عن مكان للسكن، وبما إنك قلتلي إنك مش لاقي حد يشاركك في السكن فكرت إني أجمعكم مع بعض.
كان ظاهر على عمر إنه سعيد بالفكرة، وقال: أنا لقيت شقة كويسة جداً في شارع بغداد، وأعتقد إنها هتكون مناسبة ليك… هل بتضايق من ريحة دخان البايب؟
قلت: لاء… أنا نفسي بدخن أحياناً.
عمر: كويس جداً.. كمان أنا ببقى مشغول جداً بتجارب علمية، وبتبقى حواليا كتير من المواد الكيميائية…هل ده يضايقك؟
قلت: لاء أبدا.
عمر: خليني أفكر لو في أي عيوب تانية؟ اه… في بعض الأوقات ببقى عندي حالة إكتئاب فممكن ما اتكلمش لأيام متواصلة فأرجوك ما تخليش الأمر شخصي، وتفتكر إن أنا متضايق منك سيبني لوحدي، وهتتحسن حالتي بالوقت
هاه بالنسبه ليك محتاج تقولي إيه؟ أعتقد من الأفضل إن كل واحد يقول عيوبه للتاني قبل ما نبدأ نشترك في السكن مع بعض.
إبتسمت، وقلت أنا ما بحبش الإزعاج أعصابي ما بتستحملش… ما ليش مواعيد محددة في الصحيان…عندي كسل شديد، وممكن يكون فيه مجموعة من العيوب ممكن تظهر لما أخف بس أعتقد إن هي دي العيوب الأساسية فيا.
عمر: هل عزف الكمان يعتبر إزعاج بالنسبة ليك؟
قلت: على حسب العزف لو كان كويس فهيبقى أمر جميل، أما لو العزف سيء…
ضحك عمر، وقال: أعتقد إن كل حاجة بقت واضحة… ده لو عجبتك الشقة.
قلت: إمتى أقدر أشوفها؟
عمر: قابلني هنا بكرة الضهر، وهنروح مع بعض.
سلمت عليه، وقلت: تمام أقابلك بكرة الضهر.
سيبناه شغال في التجربة الكيميائية، ومشينا… بعد شوية سألت صديقي المساعد، وقلت: إزاي الشخص ده عرف أن أنا كنت في الجيش؟
إبتسم صديقي، وقال: دي من الصفات المميزة في عمر، وكتير مننا بيتمنى إنه يعرف الطريقة اللي بيكتشف بها المعلومات.
قلت: الموضوع لغز يعني؟ شيء مثير… أنا سعيد إن إنت عرفتني عليه… أعتقد إن هيكون مميز جداً دراستي لشخص زيه.
صديقي، وهو بيسلم عليا، وهو ماشي: خلاص إدرسوا… بس أنا بأكدلك إنك هتلاقي دراسته دراسة معقدة، ويمكن أراهنك كمان إنه هيعرف عنك أكتر ما إنت ما هتعرف عنه… مع السلامة.
سبت صديقي، وكملت طريقي للفندق اللي أنا قاعد فيه… وكنت عمال أفكر في الشخص المثير للإهتمام اللي لسه مقابلة.
تاني يوم قابلته في الميعاد اللي إتفقنا عليه، ورحنا شوفنا الشقة…هي في 222 أ في شارع بغداد… كانت الشقة فيها أوضتين نوم، وأوضة جلوس… العفش فيها كان كويس… فيها شباكين كبار بتدخل الإضاءة بشكل جميل… كانت الشقة كويسة من كل النواحي… كمان الإيجار بتاعها كان معقول لما يتقسم على إتنين…إتفقنا مع المالك، وأخذنا الشقة على طول.
في نفس اليوم بالليل نقلت حاجتي من الفندق للشقة، وتاني يوم الصبح نقل عمر حاجته… قعدنا يومين بنرتب حاجاتنا، وبنرتب الشقة، وبنحاول نستغل كل مكان فيها بشكل صحيح.
مكانتش العيشة مع عمر صعبة… هو كان شخص هادي… مكانش بيسهر كتير بعد الساعة 10:00… كان بيفطر، وبعد كده بيخرج قبل ما أصحى من النوم في كتير من الأيام، وكان ممكن يقضي يوم كامل في المعمل، ومن وقت للتاني كان بيخرج يتمشى.
كان عمر بيبقى نشيط جداً لما يكون في شغل بيشتغل عليه، وأوقات تانية يكون في قمة الكسل حتى إنه ممكن يقضي أيام ورا بعض قاعد على الكنبة في أوضة الجلوس ما بيتحركش… كمان ممكن يقعد فترة طويلة ما يتكلمش ممكن توصل من الصبح لغاية بالليل.
أخذت بالي إنه دايماً نظراته فيها سرحان… كان ممكن أظن إن هو بياخد بعض الأدوية المهدئة لولا إني أخذت بالي إنه شخص صحي في عاداته، وفي نظامه.
عدت أسابيع، وإهتمامي زاد بشريكي في السكن… كان عندي فضول إن أنا أعرف أهدافه…كان شكل عمر، وإسلوبه كفيل إنه يشد أي حد… هو تقريباً طوله 180 سم… رفيع جداً…كان ليه نظرة في عينه حادة بخلاف الأوقات اللي بيكون كسول فيها اللي حكيتهالكم قبل كده… ليه مناخير طويلة مدببة… عنده قدر كبير من اليقظة، وسرعة البديهة… دقنة بارزة دليل على القوة، والهيبة… دايماً إيده بتبقى ملونة بالحبر، ومبقعة بسبب المواد الكيميائية.
ممكن القارئ يظن إن أنا شخص فضولي، وإن ده صفة فيا إلا إن عمر هو اللي أثار فضولي… لو قلتلكم كام مرة حاولت إني أخترق حالة الكتمان اللي فرضها عمر على كل حاجة تخصه.
قبل ما تحكموا عليا عايزكم تفتكروا إني قلتلكم إن كانت وقتها حياتي بلا هدف، وإن الحاجات اللي كانت بتشد إهتمامي في الوقت ده كانت قليلة، وكانت حالتي الصحية بتمنعني إن أنا أخرج إلا لو كان الجو كويس… مكانش عندي أصدقاء، وبسبب اللي أنا قلته حبيت فكرة إكتشاف حالة الغموض اللي كانت موجودة حوالين شريكي في السكن.
كان عمر ما بيدرسش الطب… كمان هو مكانش ملتحق بأي دورات دراسية اللي تخليه يحصل على الدرجة العلمية في العلوم، أو في أي دراسة تانية تسمحله إنه يدخل المجال العلمي الأكاديمي.
كان عنده شغف كبير جداً بالقراءة، وكانت معلوماته العامة متنوعة، وكبيرة… كنت أعتقد إن مفيش شخص عنده كمية المعلومات الكبيرة دي إلا لو كان بيسعى لتحقيق هدف معين في النهاية… فالإنسان أكيد مش هيبذل مجهود كبير في تجميع معلومات في مجالات مختلفة من غير سبب محدد.
كمان كان من المفاجئ ليا ان في بعض المجالات كان عمر جاهل فيها بشكل كامل كانت معلوماته عن الأدب، والفلسفة، والسياسة تعتبر معدومة، ولما كنت بستشهد بشاعر، أو أديب كان بيسألني عنه هو مين… كمان إستغربت جداً لما مرة كنت بكلمه على النظام الشمسي، ولقيت معلوماته في الأمر ده معدومة… كان شيء غريب بالنسبة ليا إني أكتشف إن في شخص متعلم في أواخر القرن 19 ميعرفش إن الأرض بتدور حول الشمس.
إبتسم عمر بسبب تعبير الدهشة اللي إترسمت على وشي، وقال: واضح إن إنت مندهش… دلوقتي بعد ما عرفت المعلومات دي هبذل مجهود كبير عشان أنساها.
قلت: تنساها؟!
عمر: عقل الإنسان شبة المخزن الصغير الفاضي، وإنت بتنقي الحاجة اللي هتخزنها فيه… والشخص الغبي هو اللي يملاه بحاجات غير مهمة… وبكده لما تحتاج إنك تخزن معلومات مهمة بالنسبة ليك ممكن ما تلاقيلهاش مكان.
أما الشخص الذكي فهو اللي يختار بدقة إيه اللي يخزنه في عقله، وما يخزنش في عقله إلا الأشياء المفيدة اللي تساعده في شغله، ويجمع منها معلومات كبيرة، ويحطها، ويخزنها بترتيب دقيق.
مش صح إن إنت بتظن إن الأوضة الصغيرة، أو المخزن الصغير ممكن يكبر لما لا نهاية، واللي بيفكر كده هيجي عليه الوقت، وهينسى معلومات عارفها قصاد كل معلومة جديدة يخزنها، وهيبقى شيء محزن جداً لو المعلومات الغير مفيدة خلتك تنسى المعلومات المفيدة المهمة.
قلت: بس النظام الشمسي!
عمر: وإيه أهمية معلومة زي كده بالنسبة مش هيكون ليه أي تأثير علي شغلي.
كنت لسه هسأله عن شغله بس حسيت من طريقة كلامه إنه مش هيحب سؤالي، وبدل إني أسأله بدأت أفكر في كل الكلام اللي كان ما بينا، وأحاول أستخرج منه بعض المعلومات فهو قال إنه مش هدفه إنه يكسب معلومات بدون هدف فأكيد كل المعلومات اللي إتعلمها هي مفيدة بالنسبة ليه.
أخدت أفكر في دماغي على الموضوعات المختلفة اللي كان عمر قوي فيها لدرجة إني أخدت ورقة، وقلم، وكتبت إستنتاجي.
كانت الورقة مكتوبة كده: قدرات المفتش عمر.
واحد الأدب معلوماته صفر.
إتنين الفلسفة معلوماته صفر.
تلاتة علم الفلك معلوماته صفر.
أربعة السياسة معلوماته قليلة.
خمسة علم النباتات معلومات مختلفة فهو جيد جداً في علم السموم بس ميعرفش أي حاجة عن الزراعة نفسها.
ستة علم الجيولوجيا معلوماته قليلة إلا إنه يقدر بنظرة واحدة إنه يحدد نوع التربة.
في يوم كنا بنتمشى مع بعض، ولما روحنا، وراني أثر بقعة على بنطلونه، وقالي فين المكان اللي إتبقع فيه البنطلون، وإستنتج كلامه من لون التربة، وكثافتها.
سبعة علم الكيميا معلوماته قوية، وجيدة جداً.
تمانية علم التشريح معلوماته قوية، وجيدة جداً بس مش ماشي على دراسة منهجية.
تسعة معلوماته عن تاريخ الجريمة عظيمة… بيعرف كل تفاصيل الجرايم الكبيرة اللي حصلت في القرن ده.
عشرة القانون معرفته جيدة فيه.
بيعزف على الكمان بشكل رائع.
الألعاب الرياضية شاطر جداً في لعبة القتال بالعصا، كمان في الملاكمة، وبيستخدم السيف بشكل رائع.
أول ما وصلت للجزء ده من القايمة بتاعتي رميت بالورقة في النار، وقلت لنفسي: لو قدرت بس أعرف إيه اللي الشخص ده عايزه عن طريق إني أربط بين مهاراته، وبين الشغلانة اللي تحتاج المهارات دي… بس أعتقد إني مش هقدر أكتشف ده مهما حاولت.
كنت قلت قبل كده إن عمر بيعزف على الكمان بطريقة رائعة، وكنت واثق إنه يقدر يعزف أي نوتة موسيقية صعبة، وفي مرة من المرات طلبت منه إنه يعزف عمل قديم، وصعب، وفعلاً عزفه بتميز… أما لما عمر بيبقى لوحده ففي العادي ما بيمشيش على لحن منتظم، أو بيستخدم نغمات معروفة.
كان يقعد علي الكرسي، ويغمض عينيه، ويبدأ يلعب على الكمان، وكانت الموسيقى بتكون كئيبة، ومزعجة، وفي أوقات تانية بتكون الموسيقى رائعة… بس عمري ما قدرت أحدد هل الموسيقى بتساعد أفكاره؟ ولا النغمات بتيجي نتيجة أفكاره؟
كان ممكن إني أوضحله إني ببقى متضايق من العزف المزعج الكئيب اللي بيكون موجود في وقت من الأوقات إلا إنه كان دايماً بينهي حالة الإزعاج بإنه يعزف نغماتي المفضلة كمكافأة ليا على صبري عليه.
قعدنا فترة أسبوع تقريباً محدش زارنا… لدرجة إني إعتقدت إن شريكي زيي ما لوش أصدقاء… وبعد كده إكتشفت إنه يعرف أشخاص كتيرة من طبقات متنوعة في المجتمع… منهم شخص جسمه قليل، ووشه طويل، ورفيع، وبشرته باهته… عينيه لونها غامق… عرفني عمر عليه على إنه أستاذ لطفي وجه مرتين، أو تلات مرات في أسبوع واحد.
تاني يوم الصبح زارتنا آنسة لابسه لبس شيك، وقعدت حوالي نص ساعة، وفي نفس اليوم بعد الضهر جه شخص شعره لونه رمادي، وهدومه متهالكة، وظنيت انه بائع متجول… وكان ظاهر على الشخص ده إنه منفعل… جه بعده ست عجوزة بملابس مش منتظمة.
مرة تانية جه شخص عجوز شعره أبيض شكله بيدي إنه شخص محترم…. ومرة تانية جه عامل في السكه الحديد، وكان لابس لبسه المميز.
كان المفتش عمر بيستأذني إنه يستخدم أوضة الجلوس لما يجي أي حد من الأشخاص اللي غالباً مفيش أي صفة مشتركة ما بينهم… وفي الوقت ده كنت بقعد في أوضة نومي لغاية ما يمشوا… كان على طول عمر بيعتذرلي إنه بيزعجني، وبيقول: أنا متأسف إني بستخدم أوضة الجلوس كمكان للعمل… الأشخاص دي هما عملاء ليا.
هنا جات الفرصة عشان أسأله سؤال صريح عن شغله… إلا إني إتكسفت إني أجبره إنه يقولي حاجة هو مش عايزها، وأكيد عنده سبب منعه إنه يذكر الأمر، أو يقوله ليا، وفي يوم طرح عمر الموضوع بإرادته.
كان يوم 4 مارس، وأنا فاكر التاريخ كويس.. كنت صحيت في اليوم ده بدري عن الوقت اللي أنا متعود عليه، ولقيت عمر قاعد بيفطر، وكانت صاحبة البيت عرفت عادتي في الصحيان متأخر… وعشان كده ما كانتش حضرت الفطار الخاص بيا، ولا قهوتي… وللأسف غضبت بدون سبب.
رنيت الجرس، وبلغتها بأسلوب مش كويس إني جاهز إني أفطر، وبعد كده مسكت مجلة جنبي على الترابيزة حاولت أضيع بيها الوقت… وكان عمر في نفس الوقت بيكمل فطاره من غير، ولا كلمة… أخذت بالي إن في علامة بالقلم على عنوان مقالة من المقالات فبدأت أقرأها.
كانت المقالة بعنوان كتاب الحياة، وحاول فيها المؤلف إنه يوضح إزاي الشخص اللي بيقوم بالملاحظة يقدر إنه يعرف معلومات من خلال الفحص، وإتباع المنهج لكل حاجة ممكن يقابلها…كانت ملاحظتي على المقال من اللحظة الأولى إنها بتجمع بين الذكاء، والسخافة… فالتحليل باستخدام المنطق هو أمر دقيق، أما بالنسبة للإستنتاج فهو إحتمال بعيد، وممكن أقول إنه مبالغ فيه.
بيقول المؤلف إنه يقدر بإستخدام ملاحظة تعبير (زي نظرة عين، أو الحركات اللاإرادية للأعضاء) إنه يغوص في أفكار الإنسان.
كمان بيقول المؤلف إن شيء مستحيل إنه يخطأ شخص متدرب على التحليل، وإستخدام الملاحظة فالنتايج بتكون دقيقة غير قابلة للخطأ، أما بالنسبة للأشخاص اللي ما عندهمش خبرة فالنتايج بتكون مذهلة بالنسبة ليهم، وممكن يوصفوا الشخص ده إنه عراف.
المقالة: الحياة عبارة عن سلسلة نقدر نعرف طبيعتها لما تظهرلنا حلقة من حلقاتها، وزي كل المهارات التانية ميقدرش الشخص إنه يكتسب مهارة الإستنتاج، والتحليل إلا بالدراسة، وقبل ما يمتلك الإنسان مجموعة الصفات المعنوية، والعقلية على الشخص اللي بيستخدم التفكير المنطقي إنه يبدأ الأمر بإكتساب مهارات بسيطة فمثلاً يتعلم إنه لما يقابل أي حد يقدر يعرف بنظرة واحدة مهنته، وتاريخه.
يمكن التدريب ده يظهر إنه تافه إلا إنه بينمي مهارات الشخص الملاحظ، وبيعلمه يبحث عن إيه، وإزاي يبحث عنه.
ببساطة تقدر تعرف مهنة أي حد من خلال ملاحظة ضوافره، وكم الجاكيت، وجزمته، وركبة البنطلون، وياقة القميص، وسمك جلد صباع السبابة، والإبهام، وكمان تعبيرات وشه… فأي محقق متميز ميقدرش يشوف أي قضية بوضوح إلا لما يجمع كل المعلومات دي.
رميت المجلة وقلت: تفاهة، وأمر ما يتصدقش!
عمر: في إيه؟
كنت بدأت أكل الفطار بتاعي فقلت، وأنا بشاور على المقالة: المقالة دي أنا عارف إن إنت قرأتها لأن إنت اللي حطيت عليها العلامة.
أعترف إن هي إتكتبت بذكاء بس مضايقاني جداً… الأمر كله عبارة عن كتابة نظرية لشخص كسلان ميقدرش يطبق نظريته على أرض الواقع.
عايز أشوفه لو كان موجود في عربية من عربيات الدرجة التالتة في القطر، وإطلب منه إنه يعرف مهنة كل واحد… أنا واثق إنه هيخسر.
عمر بهدوء: هتخسر رهانك… والمقالة أنا اللي كتبتها بنفسي.
قلت بذهول: إنت؟!
عمر: أيوه أنا بحب الملاحظة، والإستنتاج، والنظرية اللي قلتها في المقالة، واللي كان ظاهر ليك إن هي مستحيلة هي ناجحة جداً، وبستخدمها في شغلي، وبكسب منها فلوسي.
قلت: وإزاي ده؟
عمر: أنا بشتغل شغلانة خاصة يمكن أكون الشخص الوحيد اللي بيشتغلها في العالم ده… أنا محقق إستشاري… موجود هنا في المدينة كتير من محققين الشرطة، والمحققين الخاصين، ولما الشخص يحتار يروح لأي واحد منهم فبيجيلي علشان أوصلهم للطريق الصحيح…
هما بيحطوا قدامي كل الإثباتات، وفي العادة بوجهم للطريق الصحيح….الأخطاء دايماً بتتشابه، وعشان كده هيكون غريب لو كان عندك تفاصيل ألف خطأ إنك تعجز عن توقع الخطأ اللي جاي بعد الألف.
لطفي اللي إنت قابلته هو محقق مشهور في الشرطة، وهو لجأ ليا بعد ما احتار في قضية تزوير من قريب.
قلت: وبالنسبة للأشخاص التانية؟
عمر: بعضهم جي ليا من خلال وكالات تحقيق، وهما كلهم أشخاص عندهم مشكلات محتاجين حد يساعدهم… فأنا بسمع قصصهم، وهما بيسمعوا لملاحظاتي، وبعد كده أخد أتعابي.
قلت: إنت عايز تفهمني إن إنت تقدر تحل المشكلات الصعبة لأشخاص تانية مقدرتش تفهمها…من غير ما تخرج من أوضتك، وبيكون هما نفسهم شافوا كل تفاصيلها؟
عمر: بالظبط، وفي بعض القضايا بتكون معقدة فبضطر إني أروح للمكان، وأشوف التفاصيل بعيني… إنت عارف إن أنا عندي معلومات كتير في علوم كتيرة… فأنا بطبقها على المشكلة فبتظهر قدامي بشكل واضح.
الإستنتاج اللي أنا ذكرته في المقالة هو من الحاجات اللي مقدرش استغنى عنها في حياتي المهنية، والملاحظة هي شخصيتي التانية.. إنت نفسك كنت في حالة إندهاش لما قابلتك أول مرة، وقلتلك إن إنت جيت من قريب من الجيش؟
قلت: أكيد حد بلغك.
عمر: لاء… أنا عرفت إن إنت جيت من عن طريق الملاحظة… الممارسة الطويلة بتخلي الأفكار تمشي بشكل سلس، وسريع في دماغي، وأقدر أوصل للنتيجة بدون أي مجهود.
كانت أفكاري لما شفتك: شخص محترم من مؤسسة طبية ليه شكل رجل عسكري، وده معناه إنك دكتور في الجيش، ولسه جاي من منطقة حارة لإن وشك غامق، وإن ده مش لون بشرتك الطبيعية لأن لون بشرة إيدك أفتح.
قلت كمان الشخص ده إتعرض لمرض، وفترة صعبة، وده ظاهر على وشه الباهت، ودراعه الشمال متصاب لإنه مثبتها بشكل مش طبيعي… في أي منطقة إستوائية يقدر دكتور بالجيش إن تحصله الظروف دي؟ والإجابة كانت أسون… كل اللي فات ما أخذش لحظات في عقلي، وبعدها قلت الملاحظة اللي خلتك تندهش.
قلت بإبتسامة: الموضوع يبان بسيط بعد ما شرحته…إنت بتفكرني بالمحقق دوبين في قصص إدغار… عمري ما إعتقدت إن الأشخاص دي بتعيش بره القصص!
وقف عمر، وقال: إنت فاكر إن إنت بتمدحني لما تقارني بدوبين… من رأيي إن دوبين أقل مني بكتير.
قلت: وبالنسبة للمحقق ليكو هل دي صورة المحقق اللي انت بتتصورها؟
عمر: كان ليكو شخص غير منظم، وإكتشف شخصية السجين المجهول اللي أقدر أحلها في 24 ساعة …هو حلها في ست شهور… ممكن يستخدموا قصته عشان يدربوا المحققين في إنهم يتجنبوا أخطائه.
حسيت بالغضب بسبب غروره، وبسبب أسلوب كلامه عن شخصيتين أنا بحبهم… إتحركت للشباك، ووقفت أبص على الشارع المليان بالناس، وقلت لنفسي: الشخص ده ممكن يكون شاطر جداً بس مغرور أوي.
عمر: في الأيام دي مفيش جرايم، ولا مجرمين فإيه فايدة الأشخاص الأذكياء اللي زي في المهنة؟
أنا عارف إن أنا أقدر أكون مشهور مفيش حد قدر يدخل في التحقيق الجنائي كمية الدراسات، والمهارات اللي دخلتها أنا… بس إيه النتيجة؟ مفيش جرايم أحقق فيها، أو بمعنى أصح الجرايم اللي موجودة سهلة، والدافع واضح يقدر أي شرطي يحلها.
كنت لسه متضايق من أسلوبه المغرور… حولت إني أغير الموضوع، وشاورت على شخص جسمه قوي، ولبسه بسيط كان ماشي بالراحة في الناحية التانية من الشارع، وكان بيبص على أرقام البيوت، وماسك في إيده ظرف كبير لونه أزرق… كان ظاهر ليا إنه بينقل الرسايل.
قلت: تفتكر الشخص ده بيبحث عن إيه؟
عمر: تقصد ضابط البحرية المتقاعد ده؟
قلت في نفسي: شخص مغرور… هو عارف كويس إني مش هقدر أتأكد من تخمينه.
وأنا بكلم نفسي شفت الراجل اللي كنت بتكلم عنه دخل باب البيت بتاعنا، وسمعت خطوات رجله التقيلة على السلم.
قلت لنفسي: جات الفرصة عشان أكشف الخدعة بتاعته… أكيد هو ما فكرش إن تخمينه العشوائي ممكن يتكشف.
وصل الضيف، وسألته بأسلوب لطيف: ممكن تقولي إنت شغال إيه؟
شخص: أنا حارس بس مش لابس الزي الرسمي لإنه بيتنظف.
سألته، وأنا ببص على عمر: كنت شغال إيه قبل كده؟
الشخص: كنت ضابط في سلاح البحرية العسكرية.
وجه الشخص كلامه لعمر، وهو بيقدمله الظرف الأزرق الكبير، وقال: حضرتك مش هتبعت رد يا أستاذ؟
وضرب رجله بالأرض، ورفع إيده، وهو بيأدي التحية العسكرية، وسبني في ذهولي، ومشي.
الفصل التاني
كنت في حالة ذهول كاملة لما سمعت إن الشخص الغريب بيأكد كلام عمر إحترمت قدرته جداً في التحليل بس كان لسه فيه جوايا شك… هل ممكن الأمر يكون مترتب من قبل كده عشان يثير إعجابي؟! مستحيل ليه ممكن يعمل كده.
لما بصيت لعمر كان خلص قرأة الرسالة اللي جاتله، وكان سرحان، وغرقان في تفكيره.
سألته: إزاي إستنتجت الأمر بالله عليك؟
عمر بلا مبالاة: إستنتجت إيه؟
قلت: إنه كان شغال ضابط في البحرية.
عمر بأسلوب جاد: معنديش وقت للتفاهة دي!…
إبتسم عمر، وقال: أنا أسف جداً بس إنت قطعت تفكيري… يمكن كان ده أفضل… إنت فعلاً معرفتش إن الشخص ده كان ضابط في البحرية؟!
قلت: لأ معرفتش.
عمر: على الرغم إن الشخص ده كان واقف في الناحية التانية من الشارع إلا إني قدرت أشوف الوشم اللي لونه أزرق الكبير اللي على ضهر إيده… والوشم ده مرتبط عادة بالبحر.
كمان طريقة مشيته كانت عسكرية جداً، وكان عنده سوالف جانبية طويلة… وكمان شكله، واحترامه لنفسه، وملامحه اللي بتدل على السلطة، وأكيد إنت أخدت بالك من الطريقة اللي شادد بيها ضهره، وحرك بيها عصايته… كمان بان إنه شخص محترم، وشكله هادي، وفي عمر متوسط خلاني أستنتج إنه ضابط متقاعد.
قلت: هايل.
عمر كان ظاهر عليه إنه إتبسطت من دهشتي، وإعجابي: لاء الأمر عادي… أنا كنت لسه بتكلم من شوية إن المجرمين المميزين قليلين الأيام دي بس واضح إني كنت غلطان… بص لده.
مد عمر إيده بالرسالة اللي كان بيقرأها… قلت بعد ما قرأتها: يا الله…شيء فظيع.
عمر بهدوء: الأمر فعلا مش معتاد… ممكن تقرأ الرسالة بصوت عالي؟
الرسالة: عزيزي سيادة المفتش عمر… حصلت جريمة عجيبة في البيت رقم 3 شارع اللوتس… لاحظ الشرطي المناوب ضوء الساعة 2:00 الصبح فشك إن في مشكلة في البيت لإن البيت مفيهوش سكان… وكان الباب مفتوح فدخل البيت، ولاحظ إن الأوضة الأمامية الفاضية من أي عفش فيها جسم راجل إنتهت حياته…كان لبسه منظم، ولقى الشرطي في جيبه بطاقة باسم إبراهيم جميل دياب، سمالوط.
مفيش أي حاجة إتسرقت، وما قدرناش نعرف الطريقة اللي إنتهت بيها حياة الراجل ده… الأوضة مليانة بالدم، وفي نفس الوقت جسمه مفيهوش أي جروح، وما قدرناش نعرف الطريقة اللي وصل بيها للبيت المهجور… في الحقيقة الأمر كله غريب…
لو قدرت إنك تيجي للبيت في أي وقت قبل الساعة 12:00 هكون موجود هناك.. أنا سبت كل حاجة زي ما هي لغاية ما أعرف رأيك.. لو مقدرتش إنك تيجي هبلغك بالمعلومات… هكون سعيد جداً لو تكرمت، وقلت رأيك في الجريمة… توقيع غريب توب.
عمر: الضابط غريب من أفضل ضباط الشرطة… فهو، ولطفي أفضل السيئين زي ما بيقولوا، وهما الإتنين عندهم ذكاء بس للأسف بيشتغلوا بشكل تقليدي، وكل واحد منهم بيغير من التاني كإنهم بنتين في مسابقة جمال… الأمر هيكون مسلي جداً لو هما الإتنين مسكوا القضية دي.
كنت مصدوم من حالة الهدوء اللي بيتكلم بيها عمر…قلت: مفيش وقت نضيعه أروح دلوقتي أطلبلك عربية أجرة؟
عمر: أعتقد إني معنديش الرغبة إني أروح.. أنا حاسس بالكسل.
قلت: إزاي.. هي دي الفرصة اللي إنت كنت عايزها؟!
عمر: وإيه اللي هستفاده… لو أنا حليت التحقيق فالتقدير كله هيكون لغريب، ولطفي، واللي زيهم… هو ده اللي بيحصل لما الشخص ما بيشتغلش في الشرطة الرسمية.
قلت: بس هو طلب إن إنت تساعده.
عمر: وده لأن هو عارف إن أنا أفضل منه، وكمان هو إعترفلي بده بيني، وبينه… بس كبريائه يمنعه إنه يعترف قدام شخص تالت.
خلاص مفيش مشكلة خلينا نروح نشوف القضية، وحتى لو حليت القضية، وما استفدتش بيها في شغلي هتكون فرصة كويسة إننا نضحك عليهم هما الإتنين.
لبس عمر الجاكيت بتاعه، وإتحرك بكل نشاط، وراح كل الكسل: يلا إلبس طاقيتك.
قلت: إنت عايزني أروح معاك؟
عمر: أيوه… لو مكنش في حاجة أفضل هتعملها.
بعد دقايق كنا في العربية رايحين في الطريق للعنوان اللي كتبه الضابط.
كان اليوم مليان بالضباب، وكان عمر بحالة رائعة، وقعد يتكلم طول الطريق عن آلة الكمان، وأنواعها… أما أنا ففضلت قاعد ساكت، وده لإني كنت في حاله سلبية بسبب الجو الكئيب، والمهمة الغريبة اللي كنا رايحينلها.
قلت: واضح إن إنت مش مشغول بالقضية اللي إحنا رايحينلها دلوقتي؟
عمر: إحنا لسه معندناش أي معلومات عنها، وهيكون خطأ كبير لو حطينا نظريات بدون أي إثبات.
قلت: هتلاقي كل المعلومات اللي إنت عايزها قريب… هو ده الشارع اللي قاله الضابط، وهو ده البيت، لو مكنتش غلطان.
عمر: هو ده البيت فعلاً… لو سمحت أقف يا أسطي.
كان لسه فاضلنا حوالي 100 متر بس عمر صمم إن إحنا ننزل من العربية، ونكمل رحلتنا ماشي.
كان البيت رقم تلاتة في الشارع شكله كئيب…كانوا أربع بيوت على صف واحد… في البيت تلات صفوف من الشبابيك الكئيبة المهجورة، وكان في مجموعة كبيرة من اليافطات اللي مكتوب عليها كلمة للإيجار.
كان في جنينة صغيرة بتفصل كل بيت عن التاني…كان فيها بعض النباتات الباهتة، وقدام كل بيت ممر من الحصى الصغير… كانت الأرض كلها مليانة طينة بسبب المطر إمبارح…كان حوالين الجنينة سور من الحجر إرتفاعه متر، وفوقيه ألواح خشبية.
كنت متخيل إن عمر هيدخل للبيت على طول بس واضح ان الفكرة ما جتش في باله… فضلت ملامح اللا مبالاة علي وش عمر.
كان الأمر غريب بالنسبة ليا فضل يبص للأرض، وللسما، والبيوت اللي قصاد البيت، والسور الخشبي… وبعد ما خلص الفحص بدأ يمشي على الأعشاب اللي جنب الممر، وكان بيبص للأرض، ووقف مرة، وسمعته بيصفر مرة.
كانت الأرض الطينية عليها كمية كبيرة من آثار الأقدام، وكان رجال الشرطة مشيوا على الأرض رايح جاي، وعشان كده أنا مكنتش فاهم تصرفات صديقي لإن فحصه غير مفيد… كنت إتأكدت قبل كده من قدرات عمر الهايلة على الملاحظة فكان عندي ثقة كبيرة إنه شايف حاجة أنا مش شايفها.
كان واقف عند الباب شخص طويل ليه شعر أصفر…وشه كان باهت، وفي إيده مفكرة… إتقدم بخطوات سريعة، وسلم علي عمر: متشكر جداً إنك جيت… أنا سبت كل حاجة زي ما هي.
عمر، وهو بيشاور على الممر: إلا ده… لو كانت مجموعة من الجواميس عديت من هنا ما كانتش سابت كمية الآثار دي… أكيد إنت وصلت لإستنتاجاتك قبل ما تسمح باللي حصل ده يا غريب؟
الضابط غريب بتردد: كان في حاجات كتير أوي لازم أعملها جوه البيت عشان كده إعتمدت علي لطفي في الأمر ده.
عمر بسخرية: مدام في أشخاص زيك إنت، ولطفي في القضية مفيش حاجة هتتبقى لشخص تالت إن هو يكتشفها.
غريب بغرور: أعتقد إن إحنا عملنا كل حاجة لازم تتعمل بس هي قضية عجيبة، وأنا عارف قد إيه إنت بتحب القضايا دي.
عمر: إنت جيت للمكان هنا بعربية أجرة؟
غريب: لاء.
عمر: ولطفي؟
غريب: ولا هو كمان.
عمر خلينا ندخل، ونشوف الأوضة.
كان سؤال عمر بالنسبة ليا خارج عن الموضوع تماماً… إتحرك عمر بنشاط، وبسرعة… كان وراه الضابط غريب اللي كان باين على ملامح وشه الذهول.
مشينا في ممر مليان تراب، وكان في نهايته مطبخ، وأوضة، وكان في بابين في كل جنب باب.. الباب الأول كان واضح إنه مقفول من فترة، أما التاني فكان باب أوضة، وهي دي الأوضة اللي حصلت فيها الجريمة.
دخل عمر الأوضة، وكنت وراه.. كان عندي إحساس كبير بالحزن… كان شكل الأوضة مربع، وكانت أوضة كبيرة، وكان ما فيهاش أي عفش… كانت الحيطان متغطية بورق حائط شكله شعبي… كان في عفونة في أكتر من مكان، وفي دفاية فوقيها رف من الرخام الأبيض، وكان فيه شمعة علي الرف…كان فيه شباك واحد في الأوضة، وكان مليان بالتراب، والأوساخ عشان كده الإضاءة كانت ضعيفة.
ما اخذتش بالي من كل التفاصيل دي إلا بعدين… كان كل إنتباهي على الجسم اللي مرمي على الأرض، والعينين المفتوحة اللي ما فيهاش أي حياة.
كان الجسم لشخص تقريباً عنده 40 سنة… جسمه متوسط…كتافه عريضة… شعره أسود خشن… عنده لحية… كان لابس بنطلون، وجاكيت تقيل لونه أسود…كان فيه طاقية شكلها جميل، وكانت مرمية جنب الجسم على الأرض.
كان الضحية قافل إيده بقوة، وكان الدراعين الإتنين مفرودين لبره، أما رجليه فكانت ملفوفة حوالين بعض كإن موته كان مؤلم، وكان وشه مليان بتعبير رعب، وفزع بشكل عمري ما شفته في حياتي.
أنا شفت الموت مرات كتير بس عمري ما شفته بالشكل المرعب اللي كان موجود في الأوضة الكئيبة دي.
وقف الضابط لطفي عند باب الأوضة، وبعد ما سلم عليا أنا، عمر…قال: القضية دي هتعمل حالة قلق كبيرة فهي أغرب من أي حاجة أنا شفتها في حياتي.
غريب: إحنا ما لقيناش أي دليل.
لطفي: ما لقيناش أي حاجة أبدا.
قرب عمر من الجسم، ونزل على ركبته، وفحص الأرض، وقال، وهو بيشاور على كتل الدم المتجمدة: إنتم متأكدين إنكم ما لقيتوش أي جرح في الجسم؟
الضابطين: متأكدين جداً.
عمر: يبقى الدم ده يخص شخص تاني، وأكيد يخص المجرم.. يعني اللي قدامنا دي جريمة إنهاء حياة…التحقيق ده بيفكرني بقضية إنهاء حياة في مدينة هـ ت سنة 1834… عارف التحقيق ده يا غريب؟
غريب: لأ يا أستاذ عمر.
عمر: أقرأها…مفيش حاجة في العالم ده جديدة كل حاجة بتتكرر.
في الوقت اللي كان عمر بيتكلم فيه كانت صوابعه بتتحرك هنا، وهناك بتحس، وتضغط، وتفحص الحاجة، وتفك الزراير…إنتهى عمر من الفحص بسرعة، وآخر حاجة عملها قبل ما يقوم شم شفايف الضحية، وبص على نعل الجزمة اللي كان مصنوع من الجلد الأسود.
عمر: إنتم ما حركتهوش؟
غريب: ما حركناهوش إلا بالشكل اللي يسمحلنا بفحصه.
عمر: تقدروا تنقلوا دلوقتي المشرحة أنا جمعت كل المعلومات اللي قدرت أحصل عليها.
كان الضابط غريب مجهز الترولي، وأربعة من رجال الشرطة دخلوا الأوضة، وشالوا جسم الضحية لبره.
أول ما رفعوا الجسم سمعنا صوت رنة خاتم على الأرض… وطي لطفي بسرعة، وأخد الخاتم، وقال: ده خاتم جواز لوحده ست… كان لطفي بيتكلم، وهو ماسك في إيده الخاتم… إتجمعنا حواليه، وقعدنا نبص على الخاتم.
غريب: وكان الموضوع ناقص تعقيد… هو كان متعقد كفاية.
عمر: إنت متأكد إن الخاتم ده مش ممكن يحل القضية؟…مش هنوصل لحاجة، وإحنا قاعدين بنبصله كده.
يكمل عمر: لقيت إيه في جيب الضحية؟
غريب، وهو بيشاور على بعض الحاجات: كلها موجودة هنا ساعة من الدهب، وسلسلة دهب لماركة غالية، وهي تقيلة جداً، وخاتم دهب، ودبوس من الدهب على شكل كلب، وعينيه من الياقوت، وعلبة من الجلد فيها بطاقات بإسمه، وجوا العلبة إتنقشت حروف إ ج د… مكانش معاه محفظة بس كان معاه مبلغ 37 جنية… كان في جيبة كتاب، وكان مكتوب على الصفحة الأولى من الكتاب إسم جرجس سمير، وكمان كان موجود رسالتين واحدة مبعوته لـ إ ج دياب، والتانية مبعوته لجرجس سمير.
عمر: إيه هو العنوان؟
غريب: مكتب بريد شارع عبد القادر…. بتفضل موجودة الجوابات لحد ما يجي حد يستلمها… الرسالتين من شركة غرين للسفن، وبتقول معاد سفر السفن… ده معناه إن الضحية كان هيسافر قريب.
عمر: هل عملتم أي تحريات عن الشخص اللي إسمه جرجس سمير؟
غريب: أنا عملت كده فعلاً، وبعت إعلان لكل الجرايد، وواحد من رجالتي راح لمكتب البريد بس لسه مرجعش.
عمر: هل بعت رسايل للقاهرة؟
غرس: أيوه بعت تلغراف النهاردة الصبح.
عمر: ولقيت إيه؟
غريب: قلت اللي حصل بإختصار، وقلت إن إحنا هنقدر إن لو أمدونا بأي معلومات تكشف عن القضية.
عمر: ما سألتش عن أي حاجة تانية؟
غريب: سألت عن جرجس سمير.
عمر: ما سألتش عن حاجة تانية…إنت مش شايف إن في ملابسات كتير في القضية… هل هتبعت تلغراف تاني؟
غريب: أنا سألت عن كل حاجة أنا عايزها.
إبتسم عمر، وكان ظاهر إنه هيقول حاجة…في نفس اللحظة رجع الضابط لطفي، وقال بثقة: أنا إكتشفت إكتشاف مهم جداً، وكان ممكن محدش ياخد باله منه لولا إني فحصت الحيطان بدقة.
كان لطفي بيتكلم بغرور أما غريب كان واضح عليه إنه متغاظ من زميله لطفي.
لطفي، وهو بيرجع للأوضة اللي كان فيها الجسم: تعالوا… أوقفوا هنا.
كنت قلت قبل كده إن ورق الحائط وقع عن الحيطة في أماكن كتيرة، وفي ركن معين كان في جزء كبير من الورق واقع عن الحيطة، وفي الجزء المكشوف إتكتبت كلمة بخط سيء، والحروف كانت مكتوبة بالدم: ر ا ش ي .
لطفي: إيه رأيكم؟ أكيد محدش كان هياخد باله في الجزء الضلمة ده من الأوضة…محدش فكر إنه يبص فيه.
أنا أعتقد إن المجرم كتب بدمه، أو دمها… إنتم شايفين الجزء اللي سايل فيه الدم على الحيطة؟ أعتقد إن بعد الإكتشاف ده هنلغي فكرة إن الشخص ده أنهي حياته بنفسه.
أما لو سألتني عن سبب إنه يختار المكان ده بالذات للكتابة فهقولكم إن ده بسبب الشمعة اللي موجودة على الرف الرخامي فوق الدفاية… اللي كانت مولعة في الوقت ده، ولما الشمعة تنور فهيكون الجزء ده هو أكثر مكان فيه إضاءة.
غريب بغيظ: وإيه معنى الإكتشاف اللي إنت إكتشفته؟
لطفي: معناه؟! معناها إن اللي كتب الحروف دي كان ناوي يكتب إسم واحدة ست إسمها راشيل بس بسبب ما مكملش كتابة الإسم… أنا متأكد من إستنتاجي أكيد هنلاقي حل القضية عند ست إسمها راشيل، وهيكون ليها علاقة بالقضية.
تقدر تضحك يا أستاذ عمر في الآخر هنعرف مين اللي هيضحك، ويكون الأفضل.
عمر، وهو بيضحك: أرجوك سامحني أكيد إحنا مقدرين إن إنت إكتشفت الأمر ده… هو فعلاً زي ما قلت إتكتب بإيد الشخص التاني… أنا لسه ما فحصتش الأوضة، وعشان كده هفحصها دلوقتي… عن إذنكم.
خرج عمر من جيبه شريط للقياس، وعدسة مكبرة، وفضل يتحرك في الأوضة، وهو بيستخدم الشريط، والعدسة… شوية يقف، وشوية ينزل على ركبه حتى إنه في مرة من المرات نام على بطنه، وأخد وقت طويل جداً لدرجة إني ظنيت إنه نسي إن إحنا موجودين… كان خلال الوقت ده بيهمس عمر بكلام لنفسه، وكان بيخرج أصوات، وتنهيدات.
فضل عمر على الوضع ده 20 دقيقة، وكان بيقيس بشكل دقيق المسافة بين علامات أنا مكنتش شايفها، وكان بيقيس الحيطة نفسها، ولقيته بيجمع مجموعة من التراب اللي لونه رمادي، وحطه في ظرف، وبعدين رجع للكلمة المكتوبة على الحيطة، وفحصها بدقة، وفحص كل حرف بعناية، وبعد ما خلص إبتسم إبتسامة بسيطة، ورجع الشريط، والعدسة في جيبه.
كنت أنا، والضابط لطفي، والضابط غريب مش فاهمين اللي عمر عمله، وإيه سبب إبتسامته.
عمر، وهو بيبتسم: بيقولوا إن الذكاء هو قوة تحمل الألم، وده تعريف مش صحيح بس ممكن نستخدمه في شغل المحقق.
كان الضابط غريب، والضابط لطفي بيتابعوا عمر بفضول، وحقد، وكانوا هما الإتنين مش فاهمين حركات عمر.
سأل الضابطين عمر: إيه رأيك؟
عمر: لو قلتولي اللي هيحصل في التحقيق هكون مبسوط جداً إني أقدملكم أي مساعدة…أما دلوقتي فأنا محتاج أتكلم مع الشرطي اللي إكتشف الجسم… ممكن إسمه، وعنوانه لو سمحت؟
بص لطفي في المفكرة، وقال: إسمه جاد ربيع، وهتلاقيه في البيت رقم 46 في ساحة الحرية.
كتب عمر العنوان، وقال: يلا يا دكتور هنروح على العنوان ده.
كمل عمر، وهو بيبص للطفي، وغريب: قبل ما أمشي عاوز أقولكم علي حاجات هتساعدكم في حل القضية… حصل هنا جريمة إنهاء حياة، والمجرم شخص طوله 180 سم، وهو شاب، وليه رجل صغيرة مقارنة بطوله… كان لابس جزمة طويلة، وكبيرة، ووشها مربع… بيشرب سيجار من نوع ترنجبوبلي.
وصل المجرم مع الضحية للمكان هنا في عربية أجرة بأربع عجلات بيجرها حصان ليه تلات حدوات قديمة، وواحدة جديدة… بنسبة كبيرة المجرم وشه أحمر مورد، وضوافر إيده اليمين طويلة…دي بعض التلميحات اللي ممكن تساعدكم.
إبتسم لطفي، وغريب إبتسامة فيها شك، وسأل غريب: لو الشخص ده إنتهت حياته زي ما بتقول فده حصل إزاي؟
المفتش عمر: بالسم.
إتحرك عمر بخطوات واسعة، وقبل ما يخرج إلتفت عند الباب، وقال: الحروف أ ر ش ي دي حروف مكتوبة باللاتينية، وبتتنطق بالألماني راخه، ومعناها إنتقام…عشان كده ما تضيعوش وقتكم، وإنتم بتدوروا على الآنسة راشيل.
قال عمر الملاحظة، ومشي، وساب المحققين لطفي، وغريب في دهشة كبيرة.
مشينا من البيت الساعه 1:00، وأخدني عمر لأقرب مكتب تلغراف، وبعت تلغراف طويل، وبعد كده وقف عربية أجرة، وقال للسواق إنه ياخدنا للعنوان اللي قالهولنا الضابط لطفي.
لما إتحركت العربية قال عمر: مفيش حاجة زي إنك تاخد المعلومات بشكل مباشر من موقع الجريمة… أنا كونت وجهة نظر كاملة عن القضية إلا إن إحنا لازم نجمع المعلومات اللي نقدر عليها قبل إثبات وجهة النظر بشكل نهائي.
قلت: إنت مدهش يا عمر بس إنت أكيد مكنتش واثق من المعلومات اللي قلتها عن المجرم… كنت بتتظاهر بالثقة.
عمر: الموضوع مفيهوش أي خطأ… أول حاجة أخدت بالي منها لما وصلت للمكان هي آثار عجلات عربة الأجرة… كان أثرها واضح جنب الرصيف… وبما إن المطر ما مطرش من أسبوع غير إمبارح بس فإن أثر العجلات حصل إمبارح.
كمان أنا أخدت بالي من حوافر الحصان، وكان واحد منها أوضح عن التلاتة التانيين فعرفت إن الحافر ده جديد… وبما إن العربية كانت موجودة في المكان قبل نزول المطر، ومكانتش موجودة الصبح، وده اللي أكده غريب، وده دليل إن هي راحت هناك بالليل، ونقلت الشخصين للبيت.
قلت: الأمر واضح دلوقتي بس إزاي عرفت طول المجرم؟
عمر: في تسع قضايا من أصل 10 قضايا تقدر تحدد طول المجرم عن طريق طول خطواته بعملية بسيطة حسابية بس بلاش أضايقك بالأرقام…أنا شفت خطوات الراجل معلمة في الطين بره، وعلى التراب اللي غطى الأوضة من جوه، وإتأكدت من حساباتي مره تانية لما كتب الراجل الكلمة على الحيطة، وبطريقة غريزية كتبها على مستوى نظره… فقست إرتفاع الكتابة عن الأرض…الأمر بسيط.
قلت: عرفت منين عمره؟
عمر: الشخص ده خطوته متر ونص فأكيد هو مش كبير في السن، وواضح إن هو نط فوق بركة من الطين في ممر الجنينة، أما صاحب الجزمة الجلد لف حوالين البركة، والشخص صاحب الجزمة اللي وشها مربع نط فوقيها… الأمر مفيهوش أي غموض… أنا بس بطبق قواعد الملاحظة، والإستنتاج اللي كتبتها في المقالة… في حاجة تاني محيراك؟
قلت: الضوافر الطويلة، والسيجار؟
عمر: المجرم كتب الكلمة على الحيطة بصباع السبابة بعد ما غمس صباعة في الدم… أخدت بالي عن طريق العدسة المكبرة إن الجبس على الحيطة مخدوش بشكل بسيط في وقت الكتابة، وده مش هيحصل لو كان ظفر الراجل مقصوص، وناعم.
كمان أنا جمعت رماد السيجار اللي ما بيخرجش إلا من ماركة ترنجبوبلي… بالمناسبة أنا عملت دراسة خاصة عن رماد السيجار، وكتبت مقالة في الموضوع ده…أنا متميز في إني بقدر أفرق ما بين أنواع السيجار المعروفة من أول نظرة… وبعدين يا أحمد هي دي الحاجات اللي بتميز المحقق الشاطر من المحققين العاديين زي لطفي، وغريب.
قلت: طيب… بالنسبة للوش المورد؟
عمر: ده كان تخمين جريء رغم إني واثق من صحته بس ما تسألنيش عن الأمر ده في المرحلة دي من القضية.
حطيت إيدي على دماغي، وقلت: دماغي بتلف… كل ما فكرت بالقضية لقيتها أكتر غموض.
إيه السبب اللي يخلي شخصين موجودين في البيت المهجور ده (ده لو إفترضنا إن هما رجلين فعلاً)؟
إيه اللي حصل لسواق العربية اللي وصلهم؟
إزاي المجرم أجبر الضحية إنه ياخد السم؟
الدم اللي موجود في الأوضة جه منين؟
إيه الدافع للقتل مدام السرقة مش هي الدافع؟
إيه تفسير وجود خاتم ست هناك؟
الأهم من كل ده إيه اللي خلى المجرم يكتب كلمة إنتقام بالألمانية قبل ما يمشي؟
أعترف إني مش لاقي أي تفسير لكل الحقائق دي.
عمر بإبتسامة: إنت جمعت كل الصعوبات بدقة… في حاجات كتير لسه غامضة على الرغم إني كونت وجهة نظر لكل التفاصيل الرئيسية في القضية.
اما الإكتشاف اللي إكتشفه لطفي فهو ببساطة خدعة هدفها إنها تبعد الشرطة عن الطريق الصحيح …وده لإنها بتدي إيحاء إن الجريمة وراها أسباب سياسية، أو جماعة سرية.
اللي متأكد منه إن المجرم مكانش ألماني لإن الألمان ما بتكتبش حروف لغتهم بالطريقة دي… دي طريقة الإنجليز في الكتابة، والشخص اللي كتبها ممثل فاشل مقدرش ينفذ تقليده بشكل مميز… والموضوع كله خدعة عشان يحول التحقيق لطريق خاطئ.
مش هحكيلك حاجة تانية عن تفاصيل القضية يا دكتور إنت عارف إن الساحر مبيحصلش على أي إعجاب لو شرح خدعته… لو شرحتلك كل طرق عملي هتعتقد إني شخص عادي جداً بعد كل ده.
قلت: مستحيل إني أعمل كده إنت خليت علم الإستنتاج علم دقيق فعلاً.
إترسمت إبتسامة خفيفة على وش عمر بعد ما قلت الكلام اللي بمدح فيه شغله… أنا أخدت بالي إن صديقي بيتأثر جداً بالكلام الكويس اللي بيخص شغله زي أي بنت بتفرح لما حد بيمدح جمالها.
عمر: هقولك على حاجة واحدة كمان… صاحب الجزمة الجلد، وصاحب الجزمة اللي وشها مربع جم هما الإتنين في نفس العربية، ومشيوا مع بعض في الممر، وواحد منهم شبك دراعه بدراع التاني، ولما دخلوا البيت فضلوا يلفوا في الأوض، أو بمعنى أدق صاحب الجزمة الجلد وقف ثابت أما صاحب الجزمة اللي وشها مربع فضل رايح جاي في الأوضة.
عرفت من قرأتي لآثار الجزم على التراب إن الشخص صاحب الجزمة المربعة كان إنفعاله بيزيد، وهو بيمشي، وظهر الإنفعال ده في خطواته اللي إتسعت بشكل ملحوظ… والظاهر إنه كان طول الوقت بيتكلم، وهو بيتحرك بشكل غاضب، وبعد كده حصلت الجريمة.
أنا كده حكيتلك كل حاجة أنا أعرفها…أما الباقي فهو تخمين، وإستنتاج… على العموم إحنا عندنا قاعدة قوية نشتغل عليها بس لازم نسرع لأن عندي حفلة موسيقية النهاردة بالليل.
بعد شوية، وقف السواق في شارع كئيب مش نضيف، وقال: هتلاقوا الشارع اللي إنتم عايزينه هناك هستناكم هنا لما ترجعوا.
مكانش الشارع شكله كويس مشينا في ساحة كبيرة حواليها البيوت من الجوانب الأربعة… كان فيها عدد كبير من السكان عدينا علي مجموعة كبيرة من الأطفال القذرة، وبعدها عدينا من حبال غسيل منشور عليها ملايات مش نظيفة لغاية ما وصلنا للبيت… كان على الباب يافطة صغيرة مكتوب عليها جاد ربيع… ولما سألنا عنه عرفنا إن هو نايم… دخلنا في أوضة صغيرة عشان نستناه.
جه جاد، وكان متضايق إن إحنا صحيناه من النوم، وقال: أنا قلت كل حاجة أعرفها في التقرير اللي قدمته للإدارة.
عمر، وهو بيخرج من جيبه جنية دهب، وفضل يلعب بيه بين صوابعه، وقال: فكرنا إن إحنا نسمع الكلام منك بشكل مباشر.
جاد، وهو بيبص على الجنية الدهب: هكون سعيد جداً إني أقولكم كل حاجة أنا أعرفها.
لاحظت إن الشرطي جاد ضم حواجبه بتركيز كإنه ناوي إنه ما ينساش أي تفاصيل، وقال: هحكيلكم كل حاجة من الأول… الحراسة بتاعتي كانت الساعة 10:00، وهتفضل لغاية الساعة 6:00 الصبح… الساعة 11:00 حصل خناقة في قهوة، وغير كده كان في هدوء تام في المنطقة.
بدأ المطر ينزل الساعة 1:00، وبعد كده قابلت هاريدي، وهو الشرطي المسؤول عن منطقة اللي جمبي، ووقفنا نتكلم عند ركن الشارع، وبعد وقت قليل على الساعة 2:00، أو بعدها بشوية إتمشيت شوية في المنطقة عشان أتأكد إن كل حاجة تمام… كانت الأرض طينية… ما قابلتش حد إلا بعض عربيات الأجرة اللي معدية من الشارع.
سكت الشرطي جين شوية كإنه بيرسم الصورة في دماغه بعد كده قال: كنت ماشي بالراحة، وكنت بتمنى في الوقت ده إني ألاقي مشروب سخن… في اللحظة دي شفت ضوء مفاجئ في شباك البيت رقم تلاتة.
كنت عارف إن في بيتين فاضيين في الشارع ده، ومفيهمش أي سكان…لأن صاحب البيت رافض إنه يوصل المجاري…كمان الساكن الأخير مات بحمى التيفود… كنت محتار جداً لما شفت الضوء في الشباك، وشكيت إن في حاجة، ولما وصلت للباب.
قاطعة عمر، وقال: إنت وقفت، وبعد كده رجعت لبوابة الجنينة ليه عملت كده؟
إتخض الشرطي جين، وبص لعمر بذهول، وقال: فعلاً هو ده اللي حصل… إنت إزاي عرفت ده؟!… لما وصلت للباب كان في هدوء، وسكون شديد، وده اللي خلاني أفكر إنه من الأفضل إن يكون موجود معايا حد.
أنا ما بخافش من الأشخاص اللي عايشة بس سيطرت عليا فكرة إن الشخص اللي مات بالتيفود روحه موجودة في المكان… خفت من الفكرة، ورجعت للبوابة عشان أشوف الشرطي اللي كنت واقف معاه بس ما لقيتلوش أي أثر، ولا لأي حد.
عمر: مكانش فيه أي حد في الشارع؟
الشرطي جاد: في الوقت ده مكانش فيه أي حد في الشارع، ولا حتى كلب… إمتلكت نفسي، ورجعت تاني عند الباب، وفتحته… كان في هدوء شديد في المكان رحت عند الأوضة اللي كان ظاهر نورها من الشباك لقيت شمعة منورة فوق رف الدفاية… شمعة لونها أحمر، وشفت….
عمر: أيوه عارف اللي إنت عملته إنت مشيت في الأوضة كذا مرة، ونزلت بركبتك جنب الجسم، وبعد كده خرجت من الأوضة، وفتحت باب المطبخ، وبعدين…
إتنفض الشرطي جاد، ووقف، وإترسم على وشه خوف، ورعب، وقال: إنت كنت مستخبي فين عشان تشوف كل ده؟ إنت عارف أكتر من اللازم.
ضحك عمر، وطلع البطاقة بتاعته، وقال: أكيد إنت ما بتظنش إن أنا القاتل… أنا مش المجرم أنا الصياد اللي هيمسك المجرم تقدر تتأكد من الكلام ده من الضابط غريب، والضابط لطفي… هاه… كمل اللي إنت كنت بتعمله؟
رجع الشرطي جين للكرسي بتاعه، ولسه في حيرة، وشك ظاهر على وشه، وقال: رجعت عند البوابة، وصفرت بالصفارة بتاعتي، وجه الشرطي اللي كنت واقف معاه قبل كده، وإتنين كمان.
عمر: الشارع كان فاضي وقتها؟
الضابط جاد: كان فاضي من أي حد ليه فايدة.
عمر: بمعنى؟!
جاد: أنا شفت في حياتي كتير من الأشخاص السكرانة بس ما شفتش حد حالته سيئة زي الراجل ده… لما خرجت كان عند البوابة ماسك قضبان السور، وكان بيغني بصوت عالي… مكانش قادر يقف بشكل مستقيم ما بالك بقى إنه يساعدني.
عمر: كان شكله إيه الراجل ده؟
الشرطي جاد بإنزعاج: كان شخص سكران شكله مش طبيعي، ولولا إن إحنا كنا مشغولين بالجريمة كنا قبضنا عليه.
عمر بنفاد صبر: بالنسبة لملامحه، أو لبسه مخدتش بالك من حاجة؟
الشرطي جاد: أعتقد إني خدت بالي لما رفعته أنا، والشرطي التاني… كان شخص طويل، وشه أحمر… كان وشه اللي تحت ملفوف…
عمر: كفاية…إيه اللي حصل ليه؟
الشرطي جاد: كنا مشغولين بحاجات أهم مكانش في وقت إن إحنا نتابعه… أظن إنه رجع لبيته من غير مشكلة.
عمر: لبسه كان إزاي؟
الشرطي جاد: كان لابس جاكيت طويل لونه غامق.
عمر: هل كان معاه كرباج؟
الشرطي جاد: كرباج؟! لاء.
عمر: أكيد سابه وراه… ما شفتش، أو سمعت صوت عربية أجرة بعد كده؟
الشرطي جاد: لاء.
عمر، وهو بيقف، وبيلبس الطاقية بتاعتهم: خذ الجنية… بس أنا أظن يا جاد إنك عمرك ما هتترقى في الشرطة أبدا… كان لازم تستخدم دماغك اللي شايلها على كتفك في إنك تفكر.
كان ممكن إنك تحصل على ترقية كبيرة إمبارح، وده لأن الشخص اللي كان بين إيدك هو نفس الشخص اللي إحنا بندور عليه، وهو مفتاح لغز الجريمة… مفيش داعي للكلام معاك دلوقتي… أنا بأكدلك إن الشخص ده هو المجرم…. يلا بينا يا دكتور.
مشينا إحنا الإتنين عند العربية، وسيبنا ورانا الشرطي جين في حالة صدمة، وذهول، وواضح إنه كان متضايق جداً.
عمر بغضب، وإحنا في طريقنا لبيتنا: الغبي ضيع فرصة إن إحنا نمسك المجرم… مجرد التفكير إنه ضيع الفرصة اللي جاتله على طبق من دهب بتخليني أتضايق.
قلت: أنا لسه محتار… على الرغم إن المواصفات اللي قالها الشرطي جين بتنطبق على الشخص التاني اللي كان موجود في الأوضة بس ده بيخليني أسأل إيه تفسير إنه يرجع للبيت بعد ما خرج منه؟… دي مش من عادة المجرمين.
عمر: بسبب الخاتم… هو ده السبب اللي خلاه يرجع، ولو مقدرناش نمسك الشخص ده ممكن نستخدم الخاتم كطعم… أنا همسكه يا دكتور، وأراهن على ده.
سكت شوية عمر، وبعد كده قال: لازم أشكرك يا دكتور أحمد لولاك مكنتش هروح، ووقتها كنت هضيع على نفسي قضية مثيرة… خليني أسميها قضية الخيوط المتشابكة
إنت فاهم اللي أنا عايز أقوله؟ هنشبة الحياة بمجموعة خيوط متشابكة، و جريمة القتل هي خيط لونه أحمر في وسطهم، وبقيت الخيوط مالهاش أي لون، ومن الواجب علينا إن إحنا نفك الخيوط المتشابكة عشان نقدر نحل اللغز.
خلينا نتغدى دلوقتي، وبعد كده نروح الحفلة الموسيقية، ونسمع الموسيقى، والعزف الجميل.
كان المجهود اللي عملناه طول النهار أكبر من إن أنا أقدر أستحمله بسبب صحتي الضعيفة… فكنت بعد الظهر تعبان جداً.
راح عمر للحفلة الموسيقية، وقعدت أنا على الكنبة حاولت إني أنام بس كانت محاولة فاشلة لإن عقلي كان مشغول بالحقائق، والتفاصيل اللي كانت مليانة جواه لدرجة إن أنا كنت بشوف وش الضحية في كل مرة بغمض فيها عيني.
كان وش القتيل بشع، وخبيث، ولولا إني مؤمن بالعدالة، وإن أخلاق الضحية مش مبرر للقتل كنت هحس بالإمتنان للشخص اللي أزال ملامح الشخص الخبيث ده من على وش الأرض.
كل ما فكرت أكتر في الموضوع كل ما كانت فكرة صديقي إن القتيل مات بالسم فكرة رائعة… وأفتكر إنه شم شفايف القتيل… أكيد هو لاحظ حاجة خلته يعمل كده… ولو مكانش السم هو اللي أنهي حياته فإيه هيكون السبب؟.. مفيش أي جرح، ولا علامة خنق.
لو كان الأمر حصل بالسم فإيه تفسير وجود الدم اللي مليان في الأوضة؟ مكانش فيه أي آثار خناقة…ومكانش مع القتيل أي سلاح ممكن يكون إستخدمه عشان يدافع عن نفسه قصاد المجرم.
طول ما الأسئلة دي مش لاقيلها تفسير أعتقد إني مش هعرف أنام بسهولة… بس كنت متأكد إن تصرفات عمر الهادية دليل علي إنه وصل لنظرية بتفسر كل الحقائق اللي موجودة… بس أنا مقدرتش أعرفها لحد دلوقتي.
إتأخر عمر، وفهمت إن الحفلة مش هي سبب تأخيره… كان العشا متحضر على ترابيزة السفرة قبل ما يجي.
قال عمر، وهو بيقعد على الكرسي: كانت الحفلة رائعة… في إيه مالك؟ شكلك مش كويس… هي القضية ضايقتك؟
قلت: فعلاً هو ده اللي حصل… المفروض إني أكون متماسك أكتر بعد اللي أنا شفته في الجيش… أنا شفت أفظع من كده، وكنت متمالك لأعصابي.
عمر: أنا فاهمك… القضية فيها لغز بيحفز الخيال..ولما مبيكنش فيه خيال بيبقي مفيش خوف، والعكس يا صديقي… إنت قرأت الجرايد المسائية؟
قلت: لاء.
عمر: فيها وصف للقضية بشكل ممتاز بس ما اتكلموش عن الخاتم اللي لقيناه على الأرض بعد ما رفعنا الجسم.
قلت: ليه؟!
عمر: بص للإعلان ده أنا بعت نسخة منه لكل الجرايد الصباحية بعد ما لقينا الخاتم على طول.
بصيت على الجرنان في المكان اللي شاور عليه عمر… كان الإعلان مكتوب في عمود المفقودات… كان مكتوب: خاتم من الدهب تم العثور عليه في الطريق بين وايت هارت، وهولند غروف على صاحب الخاتم إنه يقابل الدكتور أحمد في 222 أ شارع بغداد بين الساعة تمانية، وتسعة بالليل.
عمر: أسف إني إستخدمت إسمك… فلو كنت كتبت إسمي كان ممكن لأي شرطي غبي إنه يتدخل في الموضوع.
قلت: مفيش مشكلة.. بس لو جه حد يطلبه، وهو مش معايا هعمل إيه؟
عمر، وهو بيقدملي خاتم: اه… أهو معاك واحد… الخاتم ده هيأدي الغرض… وهو نسخة طبق الأصل من الخاتم التاني.
سألت: وتفتكر مين الشخص اللي هيهتم بالإعلان؟
عمر: أعتقد الشخص صاحب الجاكيت البني، والوش المورد صاحب الجزمة اللي وشها مربع، ولو ما جاش بنفسه هيبعت شريك ليه.
قلت: إنت مش شايف إنه ممكن يظن إن الأمر فيه خطورة كبيرة؟
عمر: ما اعتقدش… لو كانت وجهة نظري صحيحة فالشخص ده هيخاطر بأي حاجة عشان يرجع الخاتم… أعتقد إنه وقع الخاتم لما كان بيميل على جسم الضحية… بس هو محسش إنه ضاع منه في الوقت ده.
وبعد ما مشي من البيت إكتشف إنه مش معاه فرجع بسرعة، ولقى إن الشرطة موجودة، وده بسبب الغلطة الغبية اللي عملها إنه ساب الشمعة مولعة… فمثل إنه واحد سكران عشان يبعد عنه الشكوك.
دلوقتي حط نفسك مكان الشخص ده لما يفكر تاني بالأمر، ويظن إن الخاتم ممكن يكون وقع في الطريق بعد ما مشي من البيت فإيه اللي ممكن يعمله؟
أكيد هيدور في الجرايد المسائية يمكن يلاقي إعلان في الحاجات اللي بيتم العثور عليها في الشارع… وهيلاقي الإعلان بتاعنا فهيفرح جداً… مفيش حاجة هتخليه يخاف، أو إنه يشك… من وجهة نظره مفيش أي حاجة بتربط ما بين الخاتم، وما بين الجريمة اللي حصلت… وعشان كده هو هيجي، وهتشوفوا خلال ساعة من دلوقتي.
سألت: وهتعمل إيه بعد كده؟
عمر: سيب التعامل مع الأمر ده ليا… إنت معاك أي سلاح؟
قلت: معايا مسدس الخدمة بتاعي في الجيش، وبعض الرصاص.
عمر: من الأفضل إنك تخليه جاهز، وعلى الرغم إني متأكد إنه هيكون متفاجئ إلا إن الأفضل إن إحنا نكون مستعدين.
رحت الأوضة بتاعتي، وسمعت كلام عمر، ونضفت المسدس، وحشيته بالرصاص، وحطيته على الترابيزة… وكان عمر قاعد بيلعب على أوتار الكمان.
عمر أول ما دخلت: الموضوع إتعقد أنا وصلي دلوقتي رد على التلغراف اللي بعته لمركز البريد، وجهة نظري في القضية صحيحة.
قلت: وهي إيه؟
عمر: أنا بفكر إني أغير أوتار الكمان… حط المسدس في جيبك، ولما يجي الشخص إتكلم معاه بطريقة عادية، وسيب الباقي عليا… وما تدققش في النظر ليه عشان ما يخافش.
قلت، وأنا ببص للساعة: الساعة دلوقتي 8:00.
عمر: هيكون موجود هنا غالباً بعد كام دقيقة… أقفل الباب نص قفله… كده كفاية… دلوقتي حط المفتاح من جوه.. شكراً ليك…شايف الكتاب القديم اللي إشتريته إمبارح بالليل إسمه الحقوق بين الدول منشور باللغة اللاتينية سنة 1642… أعتقد إن صديقنا وصل.
رن جرس الباب في الوقت اللي كان عمر بيتكلم فيه… وقف عمر بنشاط، وحرك الكرسي عند الباب… سمعنا صوت الخدامة، وهي بتفتح الباب، وسمعنا صوت خشن بيقول: هل دكتور أحمد بيعيش هنا؟
ما سمعناش الرد بس سمعنا الباب بيتقفل، وصوت حد طالع على السلم… كان صوت الخطوات غير منتظم… كان صاحب الخطوات بيجر رجليه… ظهر على ملامح عمر الدهشة، وهو بيسمع الخطوات… بعد كده سمعنا خبط خفيف على الباب.
قلت بهدوء: إدخل.
دخلت من الباب ست عجوزة بتعرج، وده كان مختلف تماماً عن التصور اللي كنا متوقعينه… بعد ما سلمت الست العجوز علينا… بدأت تدور في شنطتها بإيديها اللي فيها رعشة، وخرجت الجرنان… كان وش صديقي مهموم، وحاولت إني أمتلك أعصابي، وأحافظ على هدوئي.
طلعت الست العجوزة الجرنان، وشورت على الإعلان، وقالت: هو ده السبب اللي خلاني أجي… الخاتم ده خاص ببنتي صولا اللي إتجوزت في نفس الوقت ده قبل سنة… جوزها شغال بحار في سفينة تجارية… مش قادرة أتخيل اللي هيقوله لو رجع البيت، وما لقاش الخاتم… هو أسلوبه وحش في العادي، وبيكون أسوء لما بيشرب… لو كنت حابب إنك تعرف أنا كنت في الميدان….
شاور عمر علي الخاتم اللي فإيدي: هو ده الخاتم؟
الست العجوز: شكراً ليك… بنتي هتفرح جداً…أيوه هو ده الخاتم.
قلت، وأنا ماسك قلم: إيه هو عنوانك؟
الست العجوزة: البيت رقم 13 بشارع إبراهيم عواد… الطريق ليه من هنا صعب جداً.
عمر: بس رمسيس مش قريب من الزاوية.
بصت الست العجوزة لعمر بحدة، وقالت: الأستاذ سألني عن عنواني أنا…أما بنتي فبتسكن في البيت رقم ثلاثة في شارع الجمهورية
سألت: وإيه إسمك؟
الست العجوزة: إسمي سناء… أما بنتي فلقبها مدام داوود فهي متجوزة باسم داوود، وهو فتى كويس طول ما هو في البحر، أما لما بيرجع بيكون شخص سيء، وعلى طول بيشرب.
فهمت الإشارة اللي وجهالي عمر فقاطعت الست العجوز، وقلت: إتفضلي الخاتم أكيد هو يخص بنتك أنا مبسوط إني رجعته لصاحبته فعلاً.
حطت العجوزة الخاتم في شنطتها، وشكرتنا جداً، وبعد كده نزلت السلم بصعوبة بسبب رجليها العرجة… في اللحظة دي دخل عمر أوضته بسرعة، ورجع بعد ثواني قليلة، وهو لابس جاكيت واسع، وقال: أنا همشي وراها أكيد هي شريكة المجرم، وهتوصلني ليه… ما تنامش لغاية ما أرجع.
بصيت من الشباك، وشفت الست العجوزة ماشية في الناحية التانية من الشارع، ووراها عمر، وقلت في نفسي: يا إما نظريته كلها غلط، يا إما هيوصل دلوقتي لحل اللغز.
حتى لو عمر مكانش طلب مني إني أستناه أنا عمري ما كنت هقدر أنام قبل ما أعرف نتيجه اللي حصل.
كانت الساعة تقريباً 9:00 لما خرج عمر… قعدت أدخن في البايب بتاعي، وقرأت كتاب… عدت الساعة 10:00، وسمعت صوت الخادمة، وهي في طريقها لإوضتها عشان تنام… الساعة 11:00 سمعت صوت صاحبة البيت، وهي بتعدي من قدام أوضتي عشان تروح أوضتها… كانت الساعة قربت على الساعة 12:00 لما سمعت صوت المفتاح في الباب، وقرأت على ملامح عمر إن مغامرته كانت فاشلة.
كان ظاهر على ملامح عمر تعبير التسلية، وتعبير شخص منزعج لحد ما غلب تعبير التسلية على وشه، وإنفجر من الضحك.
قال عمر، وهو بيرمي نفسه على الكرسي: مش عايز أي حد من أصحابي في الشرطة يعرف بالأمر…أنا ضحكت عليهم كتير فأكيد هيستغلوا أي فرصة عشان ينتقموا مني.
قلت: إيه اللي حصل؟
عمر: ما عنديش مشكلة إني أحكيلك القصة حتى لو مكانتش لصالحي… مشيت الست العجوزة مسافة قصيرة، وبعدين بدأ يظهر عليها علامات التعب بسبب رجليها… وقفت، وشاورت لعربية كانت معدية جمبها… قربت منها عشان أسمع العنوان مكانش الأمر له لازمة لإن هي قالته بصوت عالي يقدر الشخص اللي في الناحية التانية من الشارع إنه يسمعوا… قالت: 13 شارع إبراعيم عواد .
كمل عمر: فكرت إن الموضوع ممكن يكون صحيح… ولما إتأكدت إن هي دخلت العربية إتعلقت في العربية من ورا، وإتحركت العربية في طريقها، وقبل ما تقف العربية، وبمجرد ما وصلنا للشارع نطيت من العربية، وإتمشيت بحركة بطيئة في الشارع… شفت العربية لما وقفت قدام البيت، ونزل السواق، وفتح الباب مستني إن حد يخرج… بس للأسف محدش خرج، وشفت السواق، وهو بيفتش في العربية، وبيشتم بأصعب الألفاظ.
واضح إنه مش هياخد الأجرة بتاعته، ولما سألنا عن البيت رقم 13 لقيناه يخص تاجر معروف، وما يعرفش أي حاجة عن الست دي.
قلت: مستحيل… الست العجوزة الضعيفة قدرت إنها تخرج من العربية، وهي ماشية بأقصى سرعتها من غير ما تاخد بالك إنت، ولا السواق؟!!
عمر: إحنا اللي كنا أشخاص عجوزة لإننا إتخدعنا بالطريقة دي… واضح إن هو كان شاب، وكمان قوي، وعنده قدرة رهيبة على التمثيل.
أكيد لاحظ إن في حد بيراقبه فعمل الطريقة دي عشان يفلت مني… وده معناه إن الشخص اللي إحنا بندور عليه مش لوحده، وإنه عنده شركاء ممكن يتعرضوا للخطر عشانه… دلوقتي يا دكتور باين عليك التعب الشديد أرجوك خذ بنصيحتي، وإدخل نام.
كنت حاسس إني تعبان جداً…. سمعت كلام عمر، وسبته قاعد قدام الدفاية، وسمعته، وهو بيدندن على الكمان بألحانه الكئيبة، وفهمت إنه لسه بيفكر في المشكلة العجيبة اللي كان مصمم إنه يلاقي تفسير، وحل ليها.
تاني يوم الصبح إتملت كل الجرايد بالقضية، وكتبت عنها بشكل كبير حتى إن بعض الجرايد كتبت معلومات كانت جديدة بالنسبة ليا.
واحد من الجرايد كتب: نادر إن تحصل جريمة مرعبة زي الجريمة اللي حصلت… فالإسم الألماني، والكتابة على الحيطة بتدل إن المجرم من الأشخاص اللاجئين، أو الثوار اللي بيلتحقوا بالجماعات السرية، وواضح إن الضحية خالف قانون من قوانينهم فكان لازم معاقبته… إنتهت المقالة بإنها حذرت الحكومة إنها لازم تضع أحكام أكتر صرامة، وإنها تراقب اللاجئين الأجانب.
جريدة تانية قالت: إن الجريمة حصلت بسبب الإدارة المتحررة، وضعف السلطة فالضحية كان موجود في المدينة من أسابيع، وكان موجود في فندق صغير صاحبة الفندق إسمها مدام تهامي في شارع الفتح في طرة، وكان للقتيل سكرتير إسمه جرجس سمير معاه في رحلته… وهما الإتنين سابوا الفندق يوم التلات 4 في الشهر، وراحوا على المحطة عشان يركبوا القطر السريع، وتم رؤيتهم علي رصيف المحطة، ومحدش سمع عنهم حاجة لغاية ما تم العثور على جسم أستاذ دياب في بيت مهجور، أما سكرتيرة محدش يعرف عنه حاجة… بيقوم بالتحقيق أستاذ لطفي، وأستاذ غريب، وهما محققان مشهوران في حل القضايا الصعبة.
جريدة تانية إتكلمت، وقالت: إن الجريمة ليها علاقة بالسياسة، وأثر عدد اللاجئين على البلاد.. وإنهم كانوا ممكن يكون مواطنين صالحين إلا إنهم بيلتزموا بالقوانين الخاصة بيهم، واللي بيخالفها بيكون عقوبته الموت… أكدت المقالة على إن يجب العثور على السكرتير جرجس سمير، وذكرت عنوان الفندق اللي كان موجود فيه الضحية، وأشارت للمجهود اللي بذله المحقق غريب، والمحقق لطفي في تحقيق العدالة.
قرأت أنا، وعمر المقالات في الوقت اللي كنا بنفطر فيه… واضح إن المقالات كانت مسلية جداً لعمر.
عمر: مش أنا قلتلك يا أحمد إن أي شكر، أو تقدير هيكون لغريب، أو لطفي مهما حصل.
قلت: لسه الأمر مخلصش، ومتوقف على النتيجة، وحل اللغز.
عمر: بالله عليك يا أحمد…. النتيجة مالهاش أي أهمية فلو حصل، وتم القبض على المجرم فالفضل هيكون ليهم، ولمجهودهم، وتعبهم… أما لو هرب المجرم فهيكون هرب بعد كل مجهودهم، وتعبهم اللي عملوه… هما هيكسبوا مهما كانت النتيجة… ودايماً هيلاقوا اللي يسقفلهم.
قلت: إيه الصوت ده؟!
في نفس اللحظة سمعنا صوت عدد كبير من الخطوات في الصالة تحت، وبعد كده طلعت السلم، وكان في كلمات بصوت عالي من صاحبة البيت… قال عمر بإبتسامة: دول مجموعة المحققين الخاصين بيا… محققين شارع بغداد.
في نفس اللحظة دخل الأوضة 6 أطفال شكلهم مش نضيف.
عمر بصوت عالي: إنتباه… وقف الأولاد الستة صف واحد كإنهم تماثيل.
عمر: بعد كده وائل هو اللي يجي، ويقدملي التقرير، والباقي يستني في الشارع… هل لقيتوه يا وائل؟
واحد من الأولاد: لا يا أستاذ عمر ما لقيناهوش.
عمر: لازم تدوروا لحد ما تلاقوه، وأدي المكافأة بتاعتكم.
إدي عمر كل واحد منهم شلن، وقال: دلوقتي روحوا، وعايز تقرير أفضل المرة اللي جاية… حرك عمر إيديه فجري الأولاد بسرعة، ونزلوا السلالم..لحظات سمعنا صوتهم العالي في الشارع.
عمر: ممكن واحد من المتسولين الصغيرين دول يخلص شغل ميقدرش عليه 12 شرطي…فالزي الرسمي للشرطة بيمنع أي حد إنه يتكلم أما الصغيرين دول يقدروا يروحوا كل مكان، ويسمعوا كل حاجة… كمان هما أذكيا جداً مش ناقصهم غير إنهم يكونوا منظمين.
لتكملة القصة اضغط الزر بالاسفل